الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

كشف حساب

لابد من الإقلاع فورا عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه في المستقبل، وردّ المظالم، وإخلاص التوبة لله، والإكثار من الأعمال الصالحة

كشف حساب
أحمد حمدي
السبت ٠٨ أكتوبر ٢٠١٦ - ١١:١٥ ص
1235

كشف حساب

كتبه/ أحمد حمدي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

في نهاية عام هجري وبداية عام جديد؛ ينبغي على العاقل اللبيب أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة، وقفة صادقة، فيها مصارحة ومواجهة حقيقية، بدون مجاملة ولا مداهنة ولا خداع؛ يرى فيها هل هو راضٍ عن وقته وعمره وقلبه وعمله أم لا ؟

إن التاجر في نهاية العام -وكذلك المؤسسات- يعقد جردا لمعرفة نسب الأرباح والخسائر وتقييم الوضع، كذلك الجهاز المركزي للمحاسبات وأجهزة المراقبة والتفتيش، فإذا كان ذلك في أمور الدنيا؛ فأولى بذلك إذا كان الأمر يتعلق بالآخرة والجنة والنار، وإذا كان الله هو الحسيب والرقيب والشهيد الذي يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور ويستوي عنده علم الغيب والشهادة ولا تخفى عليه خافية.

ترى الانسان يرتب أوراقه ويهرب من نقد البشر، ويخفي عيوبه؛ وهو لن يستطيع أن يفعل ذلك مع الله، قال تعالى: "بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ".

فالله عزوجل يخاطبنا: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" وقال تعالى: "يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ" وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ منه فلا يرى إلا ما قدم، وينطر أشأم مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ؛ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لم يجد فبكلمة طيبة".

وقال الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ".

وقال تعالى: "وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" .. "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا"، والميزان يوم القيامة بمثاقيل الذرّ، قال تعالى: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ".

وأقسم الله عزوجل بذاته بأن سيسأل العباد عن جميع أعمالهم، قال تعالى: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" وقال: "تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ" وقال: "لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ" فما بالك بالكاذبين؟! وقال تعالى: "فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ" وقال: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا" وقال: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا".

فليحاسب الإنسان نفسه، عن جوارحه، عن سمعه وما يسمع به، وعن بصره وما ينظر إليه، وعن قلبه يفتش في نيته.

قال ابن القيّم رحمه الله: "ما من عمل إلا وينشر  له ديوانان لمَ وكيف ؟ لمَ، تسأل عن القصد والنية والاخلاص، وكيف، عن المتابعة وموافقة السنة"، فيحاسب نفسه على أعمال القلوب، من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والحمد والشكر والصبر والإخلاص والتواضع والخشوع والإخبات ...

وكذلك لسانه، قال تعالى: "مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ" فالإنسان سيحاسب على الصغير والكبير، والنقير والقطمير، والكلمة والخطوة.

قال صلى الله عليه وسلم: "أَوَّل ما يُحَاسَبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصلاة، فإنْ صَلحَتْ صَلحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وإِنْ فسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ" صلاة الفجر، وصلاة الجماعة، وتكبيرة الاحرام، والخشوع في الصلاة وأدائها بأركانها وواجباتها وشروطها وسننها.

وحق القرآن، من الحفظ والمراجعة، والتدبر والتفسير، والعمل به، قال تعالى: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا".

وكذلك حق زوجِك وأولادك وأبويك وجيرانك وأرحامك وإخوانك، قال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" وقال: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة، يَموتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ" وقال: "إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ".

ويُسأل العبد في قبره ثلاثة أسئلة معروفة مسبقا -ليست مفاجئة ولا من خارج المقرَّر ولكنها مباشِرة- لن يجيب عليها من حفظها؛ ولكن من عمل بها وكانت حياته تدور حولها، "من ربُّك؟ وما دِينُك؟ ومن نبيُّك؟" توحيد الله بأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، وكذلك تعلّم أركان الإسلام والعمل لهذا الدين، ماذا قدمت لدين الله وما الهم الذى تحمله؟ من يحمل هم الإسلام والأمانة وتبليغ الرسالة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ كم شخص اهتدى على يديك العام الماضي؟ وكذلك حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تعلّم سيرته وسنته والدفاع والذب عنها، والعمل بها، والدعوة إليها، واتخاذ النبي القدوة والأسوة.

وسيُسأل العبد يوم القيامة أسئلة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ، عَن عُمُرِه فيمَ أفناهُ؟ وعن جسدِهِ فيمَ أبلاهُ؟ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ؟ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ؟" وفي رواية: عن خمس "وعن شبابه فيمَ أبلاه؟" فأوقات العمر والساعات التي تمر علينا في لهو ولعب، أو نوم زائد أو بغير فائدة، أو سهر أو مباريات، أو مواقع التواصل، وكذلك شبابه فيما أبلاه؟ في الدعوة وطلب العلم واتباع الجنائز وعيادة المرضى والصيام والقيام والجهاد والحج والعمرة وإغاثة الفقراء. وكذلك سيسأل عن ماله، أكتسبه من رشوة أم من ربا أو من حرام أو سرقة أو أكل أموال الناس بالباطل أو أكل ميراث اليتامى أو البنات؟ أم من حلال؟ وفيمَ أنفق هذا المال؟ في الدعوة والزكاة والصدقات على الفقراء وبناء المساجد والصدقات الجارية والحج والعمرة.

كم درس واظبت عليه؟ وكم كتابا قرأته وأنهيته من أوله لآخره؟ وهل عملت بهذا العلم أم أنك تزيد من حجج الله عليك؟

بعد هذه الوقفات السريعة يجد الإنسان نفسه مقصرا هالكا -إن لم تدركه رحمة الله- فيحتاج إلى توبة سريعة وليس مصمصة الشفاة، ولكن ندم وحرقة حقيقية في القلب؛ لأن نهاية العام تذكرنا بنهاية العمر؛ فالموت يأتي بغتة، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِث عليه، وإنما الأعمال بالخواتيم.

ولقد كَثُر موت الفجأة، وقد فارقَنا العام الماضي إخوان لنا: د. مصطفى عبدالرحمن و ش. بريك و ش. محمد غنيم و ش. محمد البرماوي و ش. أبوبكر الجراري و د. خالد شريف، وغيرهم -رحمهم الله جميعا- وقد لقوا ربهم، وربما نكون أنا وأنت هذا العام؛ فلنعمل للقاء الله، ولنكن مستَعِدّين دائما، ولا نسَوِّف؛ فإن أكثر صراخ أهل النار من التسويف والأماني.

فلابد من الإقلاع فورا عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه في المستقبل، وردّ المظالم، وإخلاص التوبة لله، والإكثار من الأعمال الصالحة، قال تعالى: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ" وقال صلى الله عليه وسلم: "وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا" فالتوبة وظيفة العمر، قال تعالى: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" وقال: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا" ولم يقل يا أيها الكفار أو العصاة أو الناس. وقال تعالى: "إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ " وقال: "قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُـوَ الْغَفُـورُ الرَّحِيــمُ".

قال الحسن البصري -رحمه الله-: قسم الله الناس قسمين إما تائب وإما ظالم، قال تعالى: "وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" والنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي غفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر كان يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم مائة مرة .. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، وتُب علينا لِنَتوب، وارزقنا حسن الخاتمة، وتوفّنا مسلمين والحقنا بالصالحين .. اللهم آمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً

آداب العمل الجماعي -3
621 ٣٠ أبريل ٢٠٢٠
رمضان في ظروف خاصة!
781 ٢٧ أبريل ٢٠٢٠
فضل العمل الجماعي -2
612 ٢٢ مارس ٢٠٢٠
فضل العمل الجماعي -1
930 ١٩ مارس ٢٠٢٠
الطموح -2
621 ١٠ مارس ٢٠٢٠
الطموح (1)
677 ٢٧ فبراير ٢٠٢٠