الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

القُدْس والموصِل وحَلَب وغيرها .. (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا

إن هذه المحن العظيمة التي تمر بها الأمة اليوم في شرقها وغربها أشبه ما تكون بألم مخاض الولادة

القُدْس والموصِل وحَلَب وغيرها .. (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا
أسامة شحادة
الأربعاء ٠٢ نوفمبر ٢٠١٦ - ١٤:٣٥ م
1212

القُدْس والموصِل وحَلَب وغيرها ..

(إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)

كتبه/ أسامة شحادة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مما حدّثنا به ربنا -عزّ وجلّ- عن معركة "أُحُد" بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام وبين كفار قريش قوله جلّ في علاه: "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" (النساء: 104).

وقد نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم "أُحُد"، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طائفة في آثارهم، فشَكَوا ألم الجراحات، فقال الله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا) أي: لا تَضعُفوا (فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) في طلب أبي سفيان وأصحابِه، (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) تتوجعون من الجراح، (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) أي: يتوجعون، يعني الكفار، (كَمَا تَأْلَمُونَ) (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) أي: وأنتم مع ذلك تأمَلون من الأجر والثواب في الآخرة والنصر في الدنيا ما لا يرجون، هذا تفسير الإمام البغوي للآية.

وهذه الآية تكاد تصف حالَنا اليوم؛ فبسبب ما تعانيه الأُمّة اليوم من عدوان غاشم ظالم عليها من جهات متعددة، ففي القدس وفلسطين لا يتوقف عدوان اليهود من الجيش والساسة وقطعان المستوطنين والحاخامات على المسجد الأقصى والشعب الفلسطيني في كافة المناطق من غزة والضفّة وأهل الداخل، وفي الموصِل بالعراق وفي حَلَب بسوريا يتواصل ويتكرر عدوان المجرمين والإرهابيين على الأبرياء والمساكين من أهل السنة، من قبل "داعش" من جهة، ومن قبل روسيا وإيران وميلشياتها الشيعية الطائفية.

وتعاني دول وتجمعات إسلامية أخرى في أفريقيا وآسيا من صور متعددة من العدوان كالتطهير العرقي والتهجير، ومن حرق وتفجير مساجدهم في المهجر الغربي.

وكانت نتيجة هذه الاعتداءات قتل ملايين من المسلمين في السنوات الأخيرة ظلماً وعدواناً، وتهجير مئات الملايين منهم عن بلادهم وديارهم، وتدمير عشرات المدن وتحويل أهلها للاجئين ونازحين، كان الله في عونهم وخفف عنهم وأعادهم سالمين لأوطانهم.

فبسبب هذه المآسي وغيرها وبسبب التغطية الإعلامية الجائرة عموما، وبسبب طبيعة الإعلام التي تركز على المصائب والكوارث، يتضخم في ذهن بعض المسلمين أو كثير منهم أننا كمسلمين انتهينا وهُزِمنا وتلاشينا ولم يعد لنا وجود، وهذا كله خلاف الحقيقة تماماً !

ويرافق تضخيم الكوارث والهزائم والمآسي للمسلمين إعلامياً، تضخيم مسؤولية المسلمين عن جرائم الإرهاب في العالم، حيث تقوم القوى المهيمِنة على الإعلام في العالم على تهويل أي حدث يقوم به أفراد أو تنظيمات تنتسب للإسلام، ويُجرَّم الإسلام والمسلمون -كأفراد وهيئات ودول- ويُحمَّلون المسؤولية عن تلك الأفعال التي يكون الإسلام والمسلمون هم المتضرر الأول والأكبر منها، وبرغم أن الدراسات العلمية والموضوعية تبين محدودية نسبة التطرف المحسوب على الإسلام بالنسبة للتطرف غير المحسوب على الإسلام في العالم.

بينما حين يقوم أفراد من التيارات العنصرية أو تنظيمات إرهابية كالميليشيات الشيعية والكردية، أو دول كإسرائيل وإيران وروسيا، فهنا يتم تهوين الأمور إعلامياً وحصرها في أضيق نطاق، ويُعمل على التعمية عليها وتجاوزها!

وهنا تأتي أهمية ما ترشد له الآية الكريمة، فالمسلمون نالتهم الجراح في "أُحُد" وفي وقتنا المعاصر، ولكن أعداءنا أيضاً نالتهم الجراح والمصائب، وهم ليسوا في موقف النصر المطلق والغلبة التامة، بل إنهم في حالة معنوية أقل منا بسبب " وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ".

وهذه بعض الإيجابيات والفوائد التي حصلت في ظل كل هذه الاعتداءات والمواجهات حتى نفهم جانباً من قوله تعالى: " فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (النساء: 19).

فإذا كانت هزيمة الدول العربية سنة 1967م سبباً في تشكل الصحوة الإسلامية، فإن هذا العدوان الغاشم على الإسلام وأهله في مشارق الأرض ومغاربها يزيد المسلمين تمسكاً بدينهم وعقيدتهم وحقهم، ففي القدس وبقية مدن فلسطين تتنامى روح الفداء والدفاع عن مقدساتنا الإسلامية -حتى بأيديهم العارية- ولم يعد هذا يقتصر على جيل دون جيل أو فصيل دون فصيل، ولم تعد اعتداءات اليهود على ساحة المسجد الأقصى ومنازل أهل القدس تمضى دون ردة فعل. وحتى على مستوى العالم تتزايد اليوم مساحة المقاطعة الشعبية لليهود ومؤسساتهم ومنتجاتهم دعماً لحملة (بي دي إس)، وأخيراً جاء قرار منظمة "اليونسكو" بأحقية المسلمين لوحدهم بالمسجد الأقصى، في انتصار معنوي وسياسي مهم في صراعنا الطويل.

وعلى صعيد تنظيم "داعش" فهو يتراجع في العراق وسوريا، وينفضح فِكْره يوما بعد يوم، وقد عانت أُمّتنا كثيراً من أفكار تنظيمات الغلو والتطرف ومن تصرفاتهم المتهورة ومن اختراقات أجهزة الاستخبارات العالمية لهم، وقد كشفت هذه المحن الرهيبة عن خطر هؤلاء الغلاة على الإسلام والمسلمين، بعد أن طعنوا الكثير من الحواضن الشعبية في ظهرها حين ادّعوا حمايتها ونصرتها، وكشفت ممارساتهم وخياناتهم -التي وُثِّقت اليوم- عن حقيقة جهلهم وعدوانهم على الشريعة الإسلامية وخدمتهم لأجندات أعداء الإسلام والمسلمين، مما أيقظ الكثير من العلماء والدعاة والشباب على حقيقة هذه التنظيمات التي كانت تختبئ خلف شعارات إسلامية وخطابات منمّقة وصِيت الجهاد والمقاومة! وهذا الوعي بخطر وفشل منهج الغلو مكسب كبير للأمة في صراعها مع أعدائها.

وأما بخصوص الفكر الطائفي والذي ينخر في جسد الأمة منذ عدة عقود وهو يرفع شعارات الوحدة الإسلامية والتقارب بين المذاهب، بينما كان في الحقيقة يزرع خلاياه الطائفية النائمة، والتي استيقظت لتقتل الأبرياء في كل مكان بكل وحشية وإجرام، وبرغم رفع شعارات المقاومة والممانعة والعداء للشيطان الأكبر، تبينت الرؤية للأمة المخدوعة، وظهر أنها شعارات للخداع، وإلا فالتحالف والتعاون والتقاطع مع الشيطان الأكبر قائم على قدم وساق، ولا مقاومة ولا ممانعة إلا للتسلل والخداع، وما كان هذا التضليل لينكشف لولا هذه المحنة العصيبة، فهل تضيع هذه الدماء البريئة هدرا ونعاود الانخداع بالشعارات؟ ومعرفة الأعداء من الأصدقاء عامل مهم للفوز والانتصار.

وكشفت هذه المحن الرهيبة عن حقيقة الظلم الذي يلف العالم باسم النظام الدولي، وكيف أن القوة هي القانون السائد وليس قوة القانون، وأن العدل لا يرجى ممّن يقتل الأبرياء أو من يتفرج عليهم! وفضح تعامل العالم القبيح مع اللاجئين رغم الشعارات البراقة للحضارة العلمانية بالإنسانية وحقوق الإنسان وأنها حقوق عنصرية لأجناس دون أخرى، وهو ما يؤكد حاجة البشرية للإسلام للخروج من دوامة الظلم والشقاء وأننا أمل البشرية المعاصرة.

وكشفت هذه المحن عن قوة الإسلام والمسلمين بترابطهم العجيب على مستوى الشارع والحي والمدينة والدولة والأمة، وكشفت عن صبرهم وقوتهم وقدرتهم على الصمود برغم كل وحشية الدمار والإرهاب الذي يستهدفهم، وكشفت عن إبداعهم وصمودهم رغم قلة عددهم وعُدّتهم وعدم تأهيلهم، ولكنها قوة العقيدة الإسلامية التي تنشر الفرح بالموت شهيداً والحياة حراً كريماً.

إن هذه المحن العظيمة التي تمر بها الأمة اليوم في شرقها وغربها أشبه ما تكون بألم مخاض الولادة، والتي ستنجب لنا غداً مشرقاً -بإذن الله- يتجدد فيه للصحوة الإسلامية شبابها، وتمدها بخبرات كبيرة ووعي ناضج متميز، مما يقربنا أكثر وأكثر من إسعاد البشرية وإنقاذها بنور الإسلام وهدايته، وبناء مجتمعاتنا على أسس الإيمان والحق والعلم والقوة، ومن شرّفه الله عز وجل من إخواننا وأهلنا بالشهادة في سبيله فقد نال ما يتمناه كل مسلم، فالانتصار للأحياء والشهادة للأموات هي الجائزة التي وعدنا الله عز وجل بها بقوله "وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ"، والمسلمون بهذا موقنون، وهذا ما يصبرهم ويثبتهم على أهوال المحنة والشدة.

اشتَدَّي أزمَةُ تَنفَرِجي   ***   قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ

وَظَلامُ اللَّيلِ لَهُ سُرُجٌ   ***  حَتّى يَغشَاهُ أبُو السُرُجِ

وَسَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ ***  فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com