الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

نداءات سورة الحجرات وأسباب الحفاظ على المجتمعات

على هذه القيم يجب أن يتربى المجتمع

نداءات سورة الحجرات وأسباب الحفاظ على المجتمعات
وائل سمير
السبت ٠٥ نوفمبر ٢٠١٦ - ١٥:٠٥ م
4817

نداءات سورة الحجرات وأسباب الحفاظ على المجتمعات

كتبه/ وائل سمير

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

سورة الحجرات مدَنيّة، تضمنت أسباب الحفاظ على تماسك المجتمع وترابط لَبِناته من التمزق والانهيار، ابتدأت بنداء الإيمان؛ لأن المؤمنين هم الذين يستجيبون لهذه الخصال بما يدعوهم إليه الإيمان من التصديق والانقياد لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والآداب والأخلاق من لوازم الإيمان، فالإيمان والأخلاق قرينان لا يرتفع أحدهما إلا ويرتفع الآخر، ومن زاد عليك خلقا فقد زاد عليك إيماناً، وحسن الخلق من أسباب دفع العداوة بين أفراد المجتمع قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

أول هذه الأسباب وأهمها: الأدب مع الله تعالى والأدب مع رسوله -صلى الله عليه وسلم-

بالتعظيم والاحترام والتصديق والانقياد، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فمقتضى الإيمان بالله والإيمان برسوله -صلى الله عليه وسلم- تصديق خبر الله وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وامتثال أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- واجتناب ما نهى الله عنه وما نهى عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

فمنهج التلقي والاستدلال عندنا هو كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا نقدم عليهما كلام أحد كائناً من كان، وهذا الأدب هو الأساس الذي تُبنى عليه سائر الآداب، ويُرجع إليه عند الاختلاف، وتكمن أهمية هذه المرجعية في ضبط أي خلاف يحدث بين أفراد المجتمع (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، وعلى قدر تحقق هذه المرجعية العليا علماً وعملاً يكون تماسك المجتمع المسلم.

ومقياس من حقق ذلك حقا أن يظهر في قوله وعمله عند الامتحان العملي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)؛ فمن كان ذلك خلقه فـ (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ)، وأما من خالف ذلك بسلوكه وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)؛ فمن نقص أدبه مع الله ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهذا دال على نقصان العقل، لأن كمال الأدب من كمال العقل.

وما نراه ونسمعه من الذين يتطاولون على ثوابت الدين وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهو من أعظم أسباب تمزق المجتمعات، ولازالت محاولات الطعن في هذه المرجعية وهذه الثوابت -بتقديم الأفكار الضالة والأهواء المخالفة وجمع الناس عليها، بل وفتح الباب لها بالتوغل بين أفراد المجتمع، لتشتيت أفراده ما بين أفكار التشيع والتصوف فضلاً عن أفكار التكفير والتفجير- لا تزال هذه المحاولات مستمرة لتفكيك المجتمعات المسلمة وتشويه أفراد المجتمع، فتنبت فيه نتوءات تزعزع تماسكه وترابطه واستمساكه بحبل الله تعالى الذي هو الوحي المنزل (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).

تحقيق الأدب مع الله تعالى ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليس مجرد شعار يُحتفل به، بل حقيقة عملية يتربى عليها المجتمع المسلم (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، حتى تصير سمة عامة لكل أفراد المجتمع، بترسيخ مبادئ الشريعة الإسلامية وتعظيمها، والحفاظ على ديانة أفراد المجتمع ظاهراً بالحفاظ على المظهر العام للإسلام، وباطناً بالقبول والانقياد تعظيماً وحباً لكتاب الله ولسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى فهم الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-.

السبب الثاني من أسباب تماسك المجتمعات: التثبت في نقل الأخبار وعدم التسرع في نشرها والحكم عليها

خاصة إن كانت ممن كان حالُه الفسق، فضلاً عن الكذب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).

وهذا من أخطر الأمراض التي تمزق المجتمعات؛ فما أكثر الخلافات والنزاعات التي تحدث بسبب التساهل في هذا الباب، وعلاجه يكون بالتثبُّت والتبيُّن، خاصة من الأخبار المطلقة والشائعات التي لا يُعرف مصدرها، وعدم نقلها إلا بعد التثبت (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).

السبب الثالث: اجتناب الظلم والبغي بين المسلمين، والمبادرة إلى الإصلاح والعدل ورد المظالم

(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، فقد حفظ الإسلام حقوق المسلمين: كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:  "كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا"، وقال: "المؤمن أخو المؤمن، لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره".

ومن أشد أنواع الظلم بين المسلمين: الاقتتال بينهم، والذي سمّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- كفراً؛ تنفيراً منه، فقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقال أيضاً: "سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، وهو كفر أصغر بإجماع المسلمين.

وعلاجه أن يتلافى المؤمنون هذا الشر الكبير بالإصلاح بينهم، والتوسط على أكمل وجه يقع به الصلح؛ فإن صلحتا فَبِها ونعمت، وإلا؛ (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ)، أي: ترجع إلى ما حَدّ الله ورسوله من فعل الخير، وترك الشر الذي أعظمه الاقتتال. (فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

فكل هذه المظالم تعالج بالصلح القائم على شرع الله، وهو العدل والقسط بين المسلمين، فالصلح هو الواجب كما قال تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)، بل هو من أعظم الأعمال (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)، والصلح الذي أمر الله به هو الذي يحقق العدل ويحافظ على الشرع، لأن أساس العلاقة بين أفراد المجتمع هي رابطة الأخوة الإيمانية التي ألّفت بين قلوب المؤمنين، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ).

السبب الرابع من أسباب تماسك المجتمعات: ترك السخرية واللمز والهمز والتنابز بالألقاب

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ)؛ فليست لهذه الأخلاق مكان بين المؤمنين، (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ). يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بحسب امرئ من الشر أن يَحقِر أخاه المسلم".

وعلاج هذه الأخلاق السيئة: المبادرة إلى التوبة ورد الحقوق، والاستغفار لمن وقع منه ذلك (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

السبب الخامس: ترك الظن السيئ والتجسس والغيبة

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الظن السيئ فقال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، وأخبر أن وقوعه بين المسلمين يوقع البغضاء بينهم، فتكون الحالقة التي تحلق الدين وتفسد ذات البين.

والظن السيئ هو الذي ليس عليه دليل، فيتهم الناس بلا بينة ويتكلم بذلك، وربما عمل أعمالاً بناءً عليه، ولذا نهى الله عن التجسس والبحث عن عورات المسلمين؛ فمن تتبع عورة أخيه اتبع الله عورته وفضحه على أعين الناس، فالمؤمن يحب الستر ويطلب المعاذير، والمنافق يحب العورات ويطلب نشرها (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

والغِيبة هي ذكرك أخاك -في غيبته- بما يكره، كما سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: يا رسول الله أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتّه"، فيا من تحب ذكرَ أخيك بما يكره: أتحب أن تأكل لحم أخيك وهو ميت؟!

السبب السادس من أسباب الحفاظ على تماسك المجتمع وترابط لَبِناتِه: أن يكون معيار التفاضل بين أفراده التقوى علماً وعملاً

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)؛ فميزان التفاضل هو عمل الإنسان الذي هو من كَسْبِه، وليس نسبه أو حسبه أو لونه أو جنسه أو نوعه، فكل ذلك ليس من كسبه، بل من خلق الله تعالى، (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى)، هذا المعيار هو معيار القرب والبعد عند الله تعالى، والذي يجب أن يكون بين الناس كذلك.

ثم ختمت السورة بما يحقق المراقبة الذاتية لأفراد المجتمع في تطبيق هذه الآداب

بمراقبة الله تعالى في كل وقت وكل حين؛ فإن الله مطلع خبير بصير بعباده (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ).

فعلى هذه القيم يجب أن يتربى المجتمع.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com