الأربعاء، ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٤ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وثيقة المدينة ملامح ومعالم (7)

النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتعرض فيها مع اليهود لعدة أمور، منها: مسألة دور العبادة

وثيقة المدينة ملامح ومعالم (7)
ياسر برهامي
الخميس ٠٩ فبراير ٢٠١٧ - ٢٠:٥٧ م
1462

وثيقة المدينة ملامح ومعالم (7)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

تكلمنا في المقال السابق عمّا تضمنته وثيقة المدينة من جواز اختصاص الكفار بأرضٍ لهم أو إقليم يشبه الحكم الذاتي لهم بل ربما يشبه الدولة الكونفيدرالية التي تتمتع أقاليمها بصلاحيات واسعة بما في ذلك صلاحية الدفاع والتسلُّح، إن ذلك إن كانت فيه مصالح المسلمين جاز عقد الصلح عليه..

والذي يظهر من تأمُّل الوثيقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتعرض فيها مع اليهود لعدة أمور، منها: مسألة دور العبادة، بقاءً للموجود، وتجديدًا له إذا وَهَى، وإنشاءً لغيره؛ وهذا يدل أن العقد مع اليهود في هذه المسألة كان لا يمنع من ذلك، إذ ليس داخلًا في شروط الاتفاق، خلاف الوثيقة العُمَرِيّة مع أهل بيت المقدس التي تضمنت تفصيلًا في ذلك الأمر.

قال ابن كثير -رحمه الله-: {روى الأئمة الحفاظ من رواية عبدالرحمن بن غُنْم الأشعري قال: (كتبتُ لعُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين صالح نصارى نجران من أهل الشام:

"بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا كتابٌ لعبدِالله عُمَر -أمير المؤمنين- من نصارى مدينة كذا وكذا..

إنكم لَمّا قدِمتم علينا سألناكم الأمان لأنفُسِنا وذَرارينا وأموالِنا وأهلِ مِلَّتِنا، وشَرَطْنا لكم على أنفسنا ألا نُحْدِثَ في مدينتنا ولا في ما حولها ديرًا ولا كنيسة ولا قِلاية ولا صومعةَ راهبٍ، ولا نُجَدِّد ما خَرِب منها، ولا نحيي منها ما كان خُطّةً للمسلمين، وأن لا نمنع كنائسَنا أن يَنزِلها أَحَدٌ من المسلمين في ليلٍ ولا نهارٍ، وأن نوَسِّع أبوابَها للمارّة وابن السبيل، وأن نُنزِل من مَرَّ بنا من المسلمين ثلاثة أيامٍ نُطعِمُهم، ولا نؤوي في كنائسِنا ولا منازِلنا جاسوسًا، ولا نكتُم غِشًّا للمسلمين، ولا نُعَلِّم أولادَنا القرآن، ولا نُظهِر شِركًا ولا ندعوا إليه أحدًا، ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابَتِنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نُوَقِّر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نَتَشَبَّه بهم في شيء من ملابسهم في قَلَنسُوة ولا عِمامة ولا نَعلَين ولا فرق شعر، ولا نتكلَّم بكلامِهم، ولا نَكْتَني بِكُناهم، ولا نركب السروج، ولا نَتَقَلَّد السيوف، ولا نَتَّخِذ شيئًا من السلاح ولا نحمله معنا، ولا نَنْقُش خواتِمَنا بالعرَبِيَّة، ولا نبيع الخمور، وأن نَجُزَّ مقادِم رؤوسِنا، وأن نَلزَم زِيَّنا حيثما كُنّا، وأن نَشُدَّ الزنانير على أوساطنا، وأن لا نُظهِر الصليب على كنائسِنا، وأن لانظهر صُلُبَنا ولا كُتُبَنا في شيئ من طُرُقِ المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا، وألا نرفَع أصواتَنا بالقراءة في كنائسِنا في شيئ من حضرة المسلمين، ولا نخرج شَعَانين ولا بُعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نُظهِر النيران معهم في شيئ من طُرُق المسلمين ولا أسواقِهم، ولا نُجاوِرهم بمَوتانا، ولا نَتَّخِذ من الرقيق ما جرى عليه سِهام المسلمين، وأن نُرشِد المسلمين، ولا نَطَّلِع عليهم في منازلهم.

قال: فلما أتَيتُهم رَضوا بالكتاب.. زادَ فيه: ولا نَضرِب أَحَدًا من المسلمين..

شَرَطْنا لكم ذلك على أنفُسِنا وأهلِ مِلَّتِنا، وقَبِلْنا عليه الأمان؛ فإن نحن خَالَفْنا في شيئ مما شَرَطْناه لكم ووَظَّفْنا على أنفُسِنا فلا ذِمَّة لنا، وقد حلَّ لكم منا ما يَحِلّ من أهل المُعَانَدَة والشِّقاق).}

وقد ظنّ البعض أن هذا من الشريعة اللازِمة للمسلمين في كل معاهداتهم مع الكفار في كل زمان ومكان، وقد سَبَق أن ذكرنا أن الصحيح في ذلك أنها من باب اختلاف التنوُّع المبني على مراعاة المصلحة والمفسدة والقدرة والعجز والقوة والضعف، وأن هذه المرونة التي تعامل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه تفتح للمسلمين أبوابًا مهمة  في التعامل مع غيرهم  في ظروفهم المختلفة..

وربما تصوَّر البعض أنه إذا انتفى شرطٌ من شروط الوثيقة العُمَرية في أي معاهدة يكون ذلك نفيًا لشروط عقد الذمة، وبالتالي يكون لمن خالَف حكمَ المحاربين، وليس الأمر كذلك؛ فإنه لا يلزم وجود جميع هذه الشروط، كما لا يلزم من نفي عقد الذمة نفي وصف المُعاهَد، فاليهود في المدينة كانوا معاهَدين العهدَ المطلق، ولم يكونو ذِمّيين بالاصطلاح الفقهي -أي: الذين يدفعون الجِزْية ويلتزمون أحكام الإسلام- ولهذا نقول: لا يصح لأحَدٍ أن يقول بكلِّ عهدٍ خلافَ الوثيقة العُمَرِيّة فهو مخالفٌ للشريعة، ولذا فهو باطل!؛ فهذا الكلام يخالف الأدلة الثابتة من طُرُقِ تعامُل النبي -صلى الله عليه وسلم- بشروطٍ مختلِفة، ومعاهَدَته -صلى الله عليه وسلم- الكفارَ في ظروفٍ مختلِفة بشروطٍ غيرِ المذكورة في الوثيقة العُمَرية، ومنها هذه المسألة وهي مسألة دور العبادة للكفار، ويُلحَق بها دور تعليم الدين، وعندنا في ذلك نصوصٌ لابُدّ مِن فَهْمِها وتَدَبُّرِها.

ورد في سبب نزول قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا": عن أبي هريرة قال: (زنا رجلٌ من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بُعِثَ بالتخفيف، فإن أفتانا بفُتيا دون الرَّجْم قَبِلناها واحتجَجْنا بها عند الله وقلنا: فُتيا نبي من أنبيائك، قال: فأَتَوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو جالسٌ في المسجد في أصحابِه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يُكَلِّمْهُم بكَلِمَةٍ حتى أتي بيت مِدْرَاسِهم، فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجِدون في التوراة على من زنا إذا أحصن؟ قالوا: يُحَمَّم ويُجَبَّه ويُجْلَد -والتجبيه: أن يُحمَل الزانيان على حمار، وتقابَل أقفيتهما، ويطاف بهما- قال: وسَكَت شاب منهم، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سكت، أَلَظَّ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النشدة، فقال: اللهم إِذْ نَشَدْتّنا؛ فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فما أول ما ارْتَخَصْتُم أَمْرَ الله؟ قالوا: زنا ذو قرابة من مَلِكٍ من ملوكنا فأَخَّرَ عنه الرجم، ثم زنا رجلٌ آخر في إثْرِه من الناس فأراد رجمه، فحالَ قومُه دونَه، وقالوا: لا يُرجم صاحبُنا حتى تَجِيئ بصاحِبِك فَتَرْجُمَه؛ فاصطلحوا على هذه العقوبة. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فإني أحكم بما في التوراة؛ فأَمَر بهما فَرُجِمَا) رواه أحمد وأبو داوود، وانظر تفسير ابن جرير الطبري وابن كثير..

وسنذكر بعض فوائد هذه النصوص في المقالات القادمة إن شاء الله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة