الثلاثاء، ٨ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٦ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

"وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ" (2)

الأنفس التي حَرَّم اللهُ قتلَها

"وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ" (2)
ياسر برهامي
الجمعة ٢١ أبريل ٢٠١٧ - ١٥:٥٢ م
1772

"وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ" (2)

الأنفس التي حَرَّم اللهُ قتلَها

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق شدة الحاجة إلى تَعَلُّم هذه الآية، ومعرفة أنواع النفس التي حَرَّمَ الله قتلها، ثم معرفة الحق الذي أذِن الله في قتلها فيه؛ لأن أي خلل في فهم هذين الأمرين يترتب عليه مِن سفك الدماء الذي حذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد تحذير القرآن العظيم؛ فلنتناول هذين الأمرين بشيءٍ مِن التفصيل الذي لا يستغني عنه طالب علم.

أنواع النفوس التي نهى الشرع عن قتلها:

1- نفس المُسْلِم.

2- نفس الكافر المُعَاهد.

3- بعض أنفس الكافرين المُحَارِبين الذين نهى الشرع عن قتلهم.

أولاً: نفس المسلم:

فأما نفس المسلم: فعصمة الدم ثابتة له بالإسلام الذي يثبت بالنطق بالشهادتين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) (متفق عليه).

وكما ثبت الإسلام بالنطق بالشهادتين، يثبت -كذلك- بالولادة لأبوين مسلمين أو أحدهما، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه)، وفي رواية: (إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ) (رواه مسلم).

ويثبت أيضًا بالصلاة -على الصحيح مِن أقوال العلماء-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) (رواه مسلم).

وأما الثلاث المذكورة:

فأولها: "الزنا بعد الإحصان": ولابد أن يثبت الزنا بالاعتراف أو بالبينة، وهي أربعة شهودٍ عُدُولٍ يشهدون أنهم رأوا الفرج في الفرج، ويثبت أنه قد أحصن بالوطء في زواجٍ شرعي صحيح، وبغير ذلك لا يثبت وجوب إقامة حد الرجم على رجل أو امرأة ثبت إسلامهما.

ونحن ننبه على أن إقامة الحد إنما يتولاها الإمام أو مَن يقوم مقامه.

أما الأمر الثاني: فهو "النفس بالنفس": فلابد أن يثبت فيها العمد المحض بأن يقتل بما يقتل غالبًا، مع ظهور قصد القتل؛ بخلاف الخطأ وشبه العمد الذي يقتل بما لا يقتل غالبًا، ويكون المقصود الضرب ونحوه؛ فإن هذا لا قصاص فيه بإجماع العلماء الذين يقسِّمون أنواع القتل إلى ثلاثة كما دلَّ عليه الحديث.

وثبوت القتل العمد أيضًا لا يكون إلا بالاعتراف أو البينة، وهي شاهدا عدل يشهدان بواقعة القتل.

ويُراعى في هذا الباب عدم التأويل؛ فقتال أهل القِبْلَة -مِن قتال البُغَاة، وقتال الخوارج، ومانعي الزكاة، ومَن شابههم مِن الطوائف الممتنعة، وقُطّاع الطرق- يحدث فيه قتل لهم ومنهم، ثم إذا قُدِر على الواحد منهم لم يتَحَتَّم قتلُه إلا بضوابط وشروط في بعض الأحوال دون كلها، وأهل العلم أكثرهم على أن أسير البغاة لا يُقتَل مطلقًا، وذهبت طائفة مِن أهل العلم إلى أنه يجوز قتله إذا كان لهم فئة يتحيزون إليها، وأما إذا انتهى القتال ووقع الصلح فلا يُلتفت إلى ما وقع مِن قتال في الفتنة، كما مضت السُنَّةُ عن الصحابة -رضي الله عنهم- بإهدار ما وقع مِن دماء في قتال الفتن، والقتال على المُلْكِ يقع فيه قَتلٌ بيْن الطرفين، ولا يتم القصاص فيه؛ لدرء الفتنة.

ويُشترط في القصاص بعد ثبوت القتل العمد: اجتماع أولياء المقتول -وهم ورثة القتيل- على القصاص؛ فإن قَبِلَ واحدٌ منهم الدِّيَة أو عَفَا؛ سقط القصاص بالإجماع، ومَن كان صغيرًا انتُظِر حتى يبلُغ ويُنظَر رأيُه "حتى يُنظَر في أمره ببلوغ الصغير"، ومَن زعم القصاص دون هذه الضوابط فقد انحرف انحرافًا كبيرًا.

وأما الأمر الثالث: فهو "الرِّدَّة": ولابد في ثبوتها مِن اعتراف بالرِّدَّة بعد الإسلام، أو ارتكاب كُفرٍ أكبر ناقلٍ عن المِلَّة "قَوْلِيٍّ أو عَمَلِيٍّ"؛ لأن أعمال القلوب وإن كان فيها كُفرٌ أكبر إلا أنه لا يُعامَل المرء إلا بما أظهَرَه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ) (متفق عليه).

ثم لابُدّ مِن التفريق بيْن النوع والعين، باستيفاء الشروط الثمانية وهي: "البلوغ، والعقل، واليقظة، والقصد، والتذكر، والاختيار، وبلوغ الحجة، وعدم التأويل" وكذا انتفاء الموانع الثمانية، وهي: "الصِّغَر، وزوال العقل، والنوم، والخطأ، والنسيان، والإكراه، والجهل الناشئ عن عدم البلاغ، والتأويل المانع مِن التكفير". ولا شك أن كل واحدة مِن هذه لابُدّ أن يحكم فيها قاضٍ أو حاكم عالم بحدود الشرع في كل واحدةٍ منها.

وفي هذا الباب يلزم التنبيه على أمور خطيرة، وقع بسببهما جرأة على التكفير ثم على القتل في غير محله، وهي:

الأول: باب الحكم بغير ما أنزل الله، فإن هذه المسألة قد صارت في زماننا مِن أكبر المسائل التي يُكَفَّر بها الحُكَّام والمحكومون، والجنود والضباط في الشرطة والجيش، بل والمجتمعات كلها عند بعض الجماعات، بل وكثير مِن مؤسسات الدولة عند طوائف أخرى.

فلابُدّ هنا مِن التفريق بيْن الكفر الأكبر والكفر الأصغر الذي لا يُخرِج مِن الملة، ويُراجَع في ذلك كتاب "المنة"، وفيه فتوى الشيخ "محمد بن إبراهيم" -رحمه الله-.

ثم بعد ذلك إذا ثبت ارتكاب أحد أنواع الكفر الأكبر؛ فلابُدّ مِن استيفاء الشروط وانتفاء الموانع السابق ذكرها، وعامة مَن يُكَفِّرون ثم يَقتُلون لا يعرفون شيئًا عن هذه الشروط والموانع، بل وأكثرهم يُبْطِل اعتبارها أصلاً.

ثم لابُدَّ أن يتولى التأكد مِن الشروط والموانع -وما يُعتَبَر منها في واقع الشخص المُعَيَّن وما لا يعتبر- هيئةٌ قضائيةٌ "شرعية أو علمية" مِن العلماء المُعتَبَرين المُجتَهِدين، الذين يجلسون مع الشخص المُتَّهَم ويناقشونه ويزيلون شبهته، ثم يستتيبونه.

ثم لا يُنَفِّذ الحُكمَ في حالة ثبوته آحاد الناس؛ فإن في تخليتهم في تنفيذ الأحكام مِن الفوضى والفتن والمِحَن ما نشاهده في أرجاء بلاد المسلمين، بل يتولى ذلك الإمام، ومَن يقوم مقامَه؛ فإن أصل هذا الباب مِن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولابُدَّ فيه مِن مراعاة المصالح والمفاسد، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "والأصل في هذا الباب أن تُقَام الحدود والحقوق على أحسن الوجوه، فما أمكن مِن إقامتها مِن أميرٍ لم يُحتَج إلى اثنين، وما أمكن إقامته بعَدَدٍ ومِن غير سلطان أُقيمَت، ما لم يكن في إقامتها فسادٌ يزيد على إضاعتها؛ فإن كان فيها مِن فساد الراعي والرعية ما يزيد على إضاعتها؛ لم يُدْفَع فسادٌ بأفسد منه" (انتهى كلامه).

وقد ثبت نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قطع الأيدي في الغزو، فعن بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (لَا تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي الغَزْوِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وهو حديث حسن، احتج به جماهير أهل العلم في منع إقامة حدِّ السرقة في أعضاء الجيش الغازي؛ وذلك لما يُخشى مِن فسادِ لُحُوق بعض أفراد الجيش بالعَدُوّ، وهذا الباب لابُدَّ مِن مراعاته في جميع الأمور.

وواقع المسلمين اليوم لا يَخفى على أحدٍ، ومقدار الفساد في انفراد الناس بتنفيذ ما يرونه مِن أحكامٍ، بعضُها إنما هو مِن تصوراتهم وأفهامهم المريضة، وربما أجمع العلماء على خلافهم، ومع ذلك فهم يبادرون إلى القتل وإلى التكفير! نسأل الله العفو والعافية.

ونستكمل -إن شاء الله- في مقال آخر.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


تصنيفات المادة