الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) (8) فوائد فقهية مِن "صُلح الحديبية"

انتشار الفساد والقتل والاضطراب غالبًا في مجتمع مِن المجتمعات لا يجعل الناس يفقهون قولًا

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) (8) فوائد فقهية مِن "صُلح الحديبية"
ياسر برهامي
الاثنين ١٧ يوليو ٢٠١٧ - ١١:٥٤ ص
1296

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) (8) فوائد فقهية مِن "صُلح الحديبية"

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق جملة من الحِكَم التي تضمنتها مهادنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لقريشٍ في الحديبية، ونذكر في هذا المقال بعض الفوائد الفقهية مِن قصة هذا الصلح.

قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "وَمِنْهَا: أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمُشْرِكِ الْمَأْمُونِ فِي الْجِهَادِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ عَيْنه الخزاعيّ كَانَ كَافِرًا إِذْ ذَاكَ، وَفِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى اخْتِلَاطِهِ بِالْعَدُوِّ، وَأَخْذِهِ أَخْبَارَهُمْ.

وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ مَشُورَةِ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ وَجَيْشَهُ اسْتِخْرَاجًا لِوَجْهِ الرَّأْيِ وَاسْتِطَابَةً لِنَفُوسِهِمْ، وَأَمْنًا لِعَتَبِهِمْ، وَتَعَرُّفًا لِمَصْلَحَةٍ يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ الرَّبِّ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران:159)، وَقَدْ مَدَحَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِقَوْلِهِ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38).  

وَمِنْهَا: أَنَّ مُصَالَحَةَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ مَا فِيهِ ضَيْمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَدَفْعِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، فَفِيهِ دَفْعُ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَالْبُغَاةِ وَالظَّلَمَةِ إِذَا طَلَبُوا أَمْرًا يُعَظِّمُونَ فِيهِ حُرْمَةً مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ -تَعَالَى-، أُجِيبُوا إِلَيْهِ وَأُعْطُوهُ وَأُعِينُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ مَنَعُوا غَيْرَهُ فَيُعَاوَنُونَ عَلَى مَا فِيهِ تَعْظِيمُ حُرُمَاتِ اللَّهِ -تَعَالَى-، لَا عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، وَيُمْنَعُونَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنِ الْتَمَسَ الْمُعَاوَنَةَ عَلَى مَحْبُوبٍ لِلَّهِ -تَعَالَى- مُرْضٍ لَهُ، أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ مَبْغُوضٌ لِلَّهِ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْمَوَاضِعِ وَأَصْعَبِهَا وَأَشَقِّهَا عَلَى النُّفُوسِ؛ وَلِذَلِكَ ضَاقَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ ضَاقَ، وَقَالَ عمر مَا قَالَ، حَتَّى عَمِلَ لَهُ أَعْمَالًا بَعْدَهُ، وَالصِّدِّيقُ تَلَقَّاهُ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، حَتَّى كَانَ قَلْبُهُ فِيهِ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَجَابَ عمر عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِ جَوَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ وَأَكْمَلُهُمْ وَأَعْرَفُهُمْ بِاللَّهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَعْلَمُهُمْ بِدِينِهِ وَأَقْوَمُهُمْ بِمَحَابِّهِ، وَأَشَدُّهُمْ مُوَافَقَةً لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ عمر عَمَّا عَرَضَ لَهُ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصِدِّيقَهُ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ أَصْحَابِهِ.

وَمِنْهَا: جَوَازُ صُلْحِ الْكُفَّارِ عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا يُرَدَّ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، هَذَا فِي غَيْرِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ رَدِّهِنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، وَهَذَا مَوْضِعُ النَّسْخِ خَاصَّةً فِي هَذَا الْعَقْدِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ فِي غَيْرِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ. 

وَمِنْهَا: أَنَّ رَدَّ مَنْ جَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِمَامِ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إِلَى غَيْرِ بَلَدِ الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ إِلَى بَلَدِ الْإِمَامِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِدُونِ الطَّلَبِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَرُدَّ أبَا بَصِيرٍ حِينَ جَاءَهُ، وَلَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرُّجُوعِ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءُوا فِي طَلَبِهِ مَكَّنَهُمْ مِنْ أَخْذِهِ، وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الرُّجُوعِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُعَاهَدِينَ إِذَا تَسَلَّمُوهُ وَتَمَكَّنُوا مِنْهُ فَقَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَضْمَنْهُ بِدِيَةٍ وَلَا قَوَدٍ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ الْإِمَامُ، بَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ قَتْلِهِ لَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، حَيْثُ لَا حُكْمَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ أبَا بَصِيرٍ قَتَلَ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ الْمُعَاهَدَيْنِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَهِيَ مِنْ حُكْمِ الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ كَانَ قَدْ تَسَلَّمُوهُ وَفُصِلَ عَنْ يَدِ الْإِمَامِ وَحُكْمِهِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُعَاهَدِينَ إِذَا عَاهَدُوا الْإِمَامَ فَخَرَجَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، فَحَارَبَتْهُمْ وَغَنِمَتْ أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى الْإِمَامِ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْإِمَامِ دَفْعُهُمْ عَنْهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ دَخَلُوا فِي عَقْدِ الْإِمَامِ وَعَهْدِهِ وَدِينِهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلُوا، وَالْعَهْدُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَهْدًا بَيْنَ أَبي بَصِيرٍ وَأَصْحَابِهِ وَبَيْنَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ عَهْدٌ جَازَ لِمَلِكٍ آخَرَ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي نَصَارَى مَلَطْيَةَ وَسَبْيِهِمْ، مُسْتَدِلًّا بِقِصَّةِ أبي بَصِيرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ" (انتهى كلامه).

وتنبَّه إلى قوله: "إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ"؛ أما إذا كان قد دخل بلادهم بعهد أمانٍ؛ فلا يجوز له أن ينقض ذلك العهد أو يعتدي عليهم في ديارهم وقد دخلها بأمان منهم له، وهو عند عامة أهل العلم أمان لهم منه.

قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري -في فوائد هذا الحديث-: "وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِنْصَاحِ بَعْضِ الْمُعَاهَدِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى نُصْحِهِمْ، وَشَهِدَتِ التَّجْرِبَةُ بِإِيثَارِهِمْ أَهْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ اسْتِنْصَاحِ بَعْضِ مُلُوكِ الْعَدُوِّ اسْتِظْهَارًا عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، وَلَا مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ اسْتِخْدَامِهِمْ وَتَقْلِيلِ شَوْكَةِ جَمْعِهِمْ، وَإِنْكَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ".

وقال في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ) (رواه البخاري): "أَيْ لَا أَتَعَرَّضُ لَهُ؛ لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ غَدْرًا. وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ -فِي حَالِ الْأَمْنِ- غَدْرًا؛ لِأَنَّ الرُّفْقَةَ يَصْطَحِبُونَ عَلَى الْأَمَانَةِ، وَالْأَمَانَةُ تُؤَدَّى إِلَى أَهْلِهَا؛ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَأَنَّ أَمْوَالَ الْكُفَّارِ إِنَّمَا تَحِلُّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَلَعَلَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم- ترك المَال فِي يَده لَإمَكَان أَنْ يُسْلِمَ قَوْمُهُ فَيَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْقِصَّةِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَتْلَفَ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ".

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَجُوزُ الْمُهَادَنَةُ فِيهَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَقِيلَ: لَا تُجَاوِزُ عَشْرَ سِنِينَ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ. وَقِيلَ لَا تُجَاوِزُ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَقِيلَ: ثَلَاثًا. وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

تنبيه: هذا في العهد المقيَّد بمدةٍ، وأما العهد "المطلق" مثل "وثيقة المدينة"، ومثل كثير مِن عهود النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا عهد جائز وليس بلازم، وقد سبق بيان أحكامه في مقالات "وثيقة المدينة".

قال ابن حجر -رحمه الله- في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّا لَا نَغْدِرُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ فَرْجًا وَمَخْرَجًا) (أخرجه أحمد وابن إسحاق بسندٍ حسن): "قَالَ: فَوَثَبَ عُمَرُ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ يَمْشِي إِلَى جَنْبِهِ، وَيَقُولُ: اصْبِرْ فَإِنَّمَا هُمْ مُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ كَدَمِ كَلْبٍ، قَالَ وَيُدْنِي قَائِمَةَ السَّيْفِ مِنْهُ، يَقُولُ عُمَرُ: رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنِّي فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ، فَضَنَّ الرَّجُلُ -أَيْ بَخِلَ- بِأَبِيهِ وَنَفَذَتِ الْقَضِيَّةُ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ التَّقِيَّةَ لِلْمُسْلِمِ إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ وَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يتَكَلَّم بالْكفْر مَعَ إِضْمَارِ الْإِيمَانِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّوْرِيَةُ، فَلَمْ يَكُنْ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ إِسْلَامًا لِأَبِي جَنْدَلٍ إِلَى الْهَلَاكِ مَعَ وُجُودِهِ السَّبِيلَ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْمَوْتِ بِالتَّقِيَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ أَبَاهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْهَلَاكَ وَإِنْ عَذَّبَهُ أَوْ سَجَنَهُ؛ فَلَهُ مندوحة بالتقية أَيْضًا، وَأما مَا يخَاف عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ يَبْتَلِي بِهِ صَبْرَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْ عِنْدِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ. وَقِيلَ: لَا، وَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقِصَّةِ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ نَاسِخَهُ حَدِيثُ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِينَ"، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْعَاقِلِ، وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، فَلَا يُرَدَّانِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: ضَابِطُ جَوَازِ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ بِحَيْثُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (انتهى كلامه).

وقد سبق إنكار ابن القيم لوجود شيءٍ مِن النسخ بالقصة "إلا رد النساء"، وهو ظاهر الأحاديث.

قال ابن حجر -رحمه الله-: " قَالَ ابن إِسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَافِلًا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ قَبْلَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، إِنَّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَى النَّاسُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النَّاسُ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَلَمْ يُكَلَّمْ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إِلَّا دَخَلَ فِيهِ، وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِكَ السَّنَتَيْنِ مِثْلُ مَنْ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ، يَعْنِي مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ!" (انتهى).

 وهذه مسألة غاية في الأهمية: فإن استقرار المجتمعات، والهدوء في الحوارات مِن أعظم ما يكون سببًا في هداية الخلق؛ بخلاف اضطراب الأحوال، وانتشار القتل والفساد؛ ألم تسمع إلى قول الله -عز وجل- في قصة ذي القرنين: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا . قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) (الكهف:93-95)، إلى آخر الآيات. فإنما أَمَّنَهم أولًا ثم بَيَّن لهم أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي تفضل عليه بذلك، فقال: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (الكهف:98).

فانتشار الفساد والقتل والاضطراب غالبًا في مجتمع مِن المجتمعات لا يجعل الناس يفقهون قولًا؛ ولذلك أمكن للمسلم أن يدعو إلى الله -عز وجل- في جو سِلْمِيّ، فإنهم يرغبون في ذلك؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول الإسلام، والله المستعان.

قال ابن حجر -رحمه الله-: "قَوْلُهُ: فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ -أي إلى أبي بصير وأبي جندل ومَن معهم بعد أن طلب المشركون أن يأخذهم عنده-، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمَذْكُورَةِ: فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَبِي بَصِيرٍ، فَقَدِمَ كِتَابُهُ وَأَبُو بَصِيرٍ يَمُوتُ، فَمَاتَ وَكِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي يَدِهِ؛ فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَلٍ مَكَانَهُ، وَجَعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا" (انتهى).

تنبيه: وهذا -مع كونه مُرسَلًا- ليس فيه دليل على جواز اتخاذ القبور مساجد، ولا عندها؛ لأجل أن هذا كان باجتهادٍ منه لم يطلع عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ثبت إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخاذ القبور مساجد في أحاديث مستفيضة، بل متواترة.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "قَالَ: وَقَدِمَ أَبُو جَنْدَلٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا فَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: فَعَلِمَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَارُوا بِأَنْ لَا يُسَلِّمَ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْرٌ مِمَّا كَرِهُوا.

وَفِي قِصَّةِ أَبِي بَصِيرٍ مِنَ الْفَوَائِدِ: جَوَازُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ الْمُعْتَدِي غِيلَةً، وَلَا يُعَدُّ مَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَصِيرٍ غَدْرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جُمْلَةِ مَنْ دَخَلَ فِي الْمُعَاقَدَةِ الَّتِي بَيْنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ قُرَيْشٍ؛ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ مَحْبُوسًا بِمَكَّةَ، لَكِنَّهُ لَمَّا خَشِيَ أَنَّ الْمُشْرِكَ يُعِيدُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ دَرَأَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَتْلِهِ، وَدَافَعَ عَنْ دِينِهِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ قَوْلَهُ ذَلِكَ.

وَفِيهِ: أَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ أَبِي بَصِيرٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَوَدٌ وَلَا دِيَة، وَقد وَقع عِنْد بن إِسْحَاقَ أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ الْعَامِرِيِّ طَالَبَ بِدِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَهْطِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: لَيْسَ عَلَى مُحَمَّدٍ مُطَالَبَةٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عَلَيْهِ وَأَسْلَمَهُ لِرَسُولِكُمْ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ بِأَمْرِهِ، وَلَا عَلَى آلِ أَبِي بَصِيرٍ أَيْضًا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى دِينِهِمْ.

وَفِيهِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرُدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا بِطَلَبٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا أَبَا بَصِيرٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَسْلَمَهُ لَهُمْ، وَلَمَّا حَضَرَ إِلَيْهِ ثَانِيًا لَمْ يُرْسِلْهُ لَهُمْ، بَلْ لَوْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَهُ لَأَرْسَلَهُ، فَلَمَّا خَشِيَ أَبُو بَصِيرٍ مِنْ ذَلِكَ نَجَا بِنَفْسِهِ.

وَفِيهِ: أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الَّذِي حَضَرَ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ بَاقِيًا فِي بَلَدِ الْإِمَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ وَلَا مُتَحَيِّزًا إِلَيْهِ.

وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ مَثَلًا لَوْ هَادَنَ بَعْضَ مُلُوكِ الشِّرْكِ فَغَزَاهُمْ مَلِكٌ آخَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَهْدَ الَّذِي هَادَنَهُمْ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَنْ لَمْ يُهَادِنْهُمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَةُ تَعْمِيمٍ" (انتهى).

وهو يقصد بذلك ما ذكره الإمام ابن القيم -رحمه الله- مما قد مضى.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


تصنيفات المادة