الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (34) الأحداث السياسية بيْن عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان

محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (34) الأحداث السياسية بيْن عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان
زين العابدين كامل
الأربعاء ٠٣ يناير ٢٠١٨ - ١٠:٥٦ ص
1287

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (34) الأحداث السياسية بيْن عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير:

كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد، واختار الذهاب والاستقرار بمكة، ومكة هي المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة؛ وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليستْ مناسبة، فالعراق بمصريه الكوفة والبصرة لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين -رضي الله عنه- خير دليل على ذلك.

وكان ابن الزبير يعي ذلك تمامًا حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق (نسب قريش للزبيري، ص239)، فقال له: "أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!"، أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم، وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.

ثم إن مكة بلد حرام، لا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمَن يعتصم بها حماية مِن القتل؛ إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب ذلك، ثم إن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين، ثم إنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف مِن المسلمين مِن مختلف الأقاليم، ويمكن مِن خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه، وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم آخر.

وأخيرًا، فإن معارضة ابن الزبير يقويها ويعضدها معارضة أهل المدينة لبني أمية، وبالتالي كان مِن المناسِب أن يكون ابن الزبير قريبًا مِن المدينة؛ ليضمن استمرار تأييد أهلها له، ولكي يتمكن مِن الاتصال المستمر بهم.

وكان معاوية -رضي الله عنه- على معرفة بطبيعة ابن الزبير، وأنه لن يبايع ليزيد، وقد طلب ابن الزبير مِن معاوية -رضي الله عنه- أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها، ثم طلب مِن معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلًا منه فيبايعه، ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه مِن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آنٍ واحد(1)، ثم قال: "وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا كان في الأرض خليفتان؛ فاقتلوا أحدهما".

وقد قال معاوية -رضي الله عنه- في وصيته ليزيد: "وأما ابن الزبير فإنه خب ضب -الخب: الخداع-، فإذا شخص لك فالبد له -أي تعامل معه بحزمٍ وحرص-؛ إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكان مقصد ابن الزبير -رضي الله عنهما- ومَن معه، ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين: كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم مِن فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، وكان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يرى أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله، ويضع حدًّا لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة؛ ولهذا لم يدعُ لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية (الطبقات لابن سعد).

وكان ابن الزبير يخطب ويقول: "والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا ألتمس جمع مال ولا ادخاره"، ثم إن ابن الزبير يرى في نفسه أنه أهل لمنصب الخلافة بعد وفاة معاوية؛ لما يتمتع به مِن بعض الخصائص والصفات، إضافة لِنَسَبه الكريم، حيث أبوه الزبير ابن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين -رضي الله عنها-، وجده مِن جهة أمه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وهو أول مولود يُولد للمسلمين بعد الهجرة، وارتجت المدينة بالتكبير عند مولده.

وكان معاوية -رضي الله عنه- يعرف قدر ابن الزبير ومكانته، وكان يحترمه ويقدره، وقد أدرك ابن الزبير مكانة معاوية وحلمه ولينه، وكيف كان معاوية يقابل شدتهم باللين، وقسوتهم بالرفق، وكان ابْنُ الزُّبَيْرِ يقول بعد وفاة معاوية: "للَّهِ دَرُّ مُعَاوِيَةَ، إِنْ كَانَ لَيَتَخَادَعُ لَنَا وَإِنَّهُ لأَدْهَى الْعَرَبِ، مَعَ حِلْمٍ لا يُنَادَى وَلِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَتَضَاعَفُ لَنَا وَهُوَ أَنْجَدُ الْعَرَبِ!" (أنساب الأشراف للبلاذري).

وعندما سمع ابن الزبير بمقتل الحسين -رضي الله عنه- قام خطيبًا في مكة، وترحَّم على الحسين وذم قاتليه، وقال: "أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيرًا في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء، ولا البكاء مِن خشية الله الحداء -صوت الغناء للإبل-، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في طلب الصيد -يعرّض بيزيد-، فسوف يلقون غيًّا".

ونظرًا للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عمومًا بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه-؛ فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير، ولاحَظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه-، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال مِن يزيد ويشتمه (أنساب الأشراف للبلاذري)، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية (أخبار مكة للأرزقي).

ولم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملًا مِن شأنه أن يُعقّد النزاع مع ابن الزبير؛ ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: "أذكرك الله في نفسك، فإنك ذو سن مِن قريش، وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق مِن اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى، ولا تبطل ما قدَّمتَ مِن حسن، وادخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرَّم الله، فأبى أن يبايع" (أنساب الأشراف للبلاذري).

لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته، وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولًا (أنساب الأشراف للبلاذري)، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحًا تقيًّا ورعًا، يجنح للسلم ويخشى مِن سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر على رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة مِن أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة مِن فضة، وبرنس خز (تاريخ خليفة ابن خياط، وتاريخ دمشق لابن عساكر). وفي رواية أخرى: "أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلةٍ مِن فضة وقيد مِن ذهب" (الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم).

وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: "يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم -يعني عثمان بن عفان- ونصرتك إياه يوم الدار ما لا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان مِن إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنسًا فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يُخالف في ولاية ولا مال" (أنساب الأشراف للبلاذري).

استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- فقالت: "يا بني عش كريمًا ومت كريمًا، ولا تمكِّن بني أمية مِن نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن مِن هذا" (أخبار مكة للأزرقي).

ثم جاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع، وبعد ما أجاب ابن الزبير على الوفد بالمنع، قال لابن عضاة: "إنما أنا بمنزلة حمام مِن حمام مكة أفكنت قاتلًا حمامًا مِن حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة: يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي فأتاه بقوسه وأسهمه، فأخذ سهمًا فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد، وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟! والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا ابن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعًا أو مكرهًا أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء(2)، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك. فقال ابن الزبير: أو تحل الحرم و البيت؟! قال: إنما يحله مَن ألحد فيه" (الأغاني للأصفهاني، وأنساب الأشراف للبلاذري).

ثم قال ابن الزبير: "إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال: وقد بايعتم، وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة" (عيون الأخبار لابن قتيبة).

وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد، وقال: "لقد بلغني أنه يصبح سكرانًا ويمسي كذلك"، ثم قال: "يا ابن عضاة: والله ما أصبحتُ أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينةٍ مِن ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فالله يعلم إرادتي وكراهيتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي"، وأجاب الباقين بنحو جوابه. (أنساب الأشراف للبلاذري).

ثم قال ابن الزبير: "اللهم إني عائذ ببيتك" (الطبقات لابن سعد)، ولقَّب نفسه عائذ الله (الإصابة لابن حجر)، وكان يسمَّى العائذ (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (تاريخ خليفة لابن خياط، ص214)، و(حلية الأولياء) بإسنادٍ حسن (1/ 330-331)، وقد علَّق محب الدين الخطيب على هذا فقال: "ابن الزبير أذكى مِن أن يفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معًا في حياة معاوية".

(2) حديث: "نِعْمَ الْحَيُّ الْأُسْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ لَا يَفِرُّونَ فِي الْقِتَالِ، وَلَا يَغُلُّونَ، هُمْ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ" (الحديث ضعفه الألباني وشعيب الأرنؤوط).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com