الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في النصيحة (3)

نستكمل اليوم أنواع المصالح التي يجب على المسلم أن يعمل على حفظها نُصْحًا لنفسه ولمجتمعه وأُمَّتِه

تأملات في النصيحة (3)
ياسر برهامي
الخميس ٠٨ فبراير ٢٠١٨ - ١٧:٢٧ م
1525

تأملات في النصيحة (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تكلمنا في المقال السابق عن وجوب الحفاظ على الدين في دائرةِ الشخصِ نفسِه وأُسْرَتِه، وعائلتِه أو قبيلتِه، وطائفتِه وجماعتِه، ومجتمَعِه وبلدِه وأُمَّتِه كُلِّها، وبَذْلِ كُلِّ جهدٍ لدعوة البشرية كُلِّها للدخول في هذا الدين والالتزام به، والتضحية من أجْلِ هذه الغاية العظيمة النبيلة بالنفس والمال.

ونستكمل اليوم أنواع المصالح التي يجب على المسلم أن يعمل على حفظها نُصْحًا لنفسه ولمجتمعه وأُمَّتِه؛ فالذي يلي أمرَ الدين -الذي هو عِصْمَةُ الأَمْرِ-: حِفْظُ النفوس التي خلقها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لعبادته، ولم يأذن لأَحَدٍ أن يُزهِقها -إلا بما شرعه هو سبحانه-؛ لأنه هو مالكها، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام:151)

تَعَجَّبَ الملائكةُ ممن يُفسِد في الأرض ويَسفِك الدماء، فقالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة:30)؛ وما ذاك إلا لأن سفك الدماء أمرٌ مُعَظَّمٌ -غاية التعظيم- في الإجرام، وهو وإن كان مِن ضمن الفساد في الأرض إلا أنه عُطِف عليه تخصيصًا له، لأنه أعظم أنواع الفساد بعد الشِّرْكِ بالله.

ولا يتجرأ على خيار سفك الدماء المعصومة -وبالأخصِّ المؤمنة منها والبريئة- إلا جَبَّارٌ في الأرض، ويشترك في الجبروت: مَن بَاشَرَ، ومَن أَمَرَ أو أَكْرَهَ، ومَن أَعَانَ وتَسَبَّبَ قَاصِدًا، ومَن رَضِيَ بذلك.

والعَجَبُ أن يكون مِن ضمن خياراتِ بعضِ المنتسبين إلى العمل الإسلامي سفك دماء الملايين مِن الناس -بل المسلمين!-، وتحويل البلاد إلى فوضى بزعم نُصْرَة الدين، بل ويعلنون ما سَمّوه: "إدارة التَوَحُّشِ" في هذا الباب؛ لكي ينشروا الرعب والخراب في البلاد تمهيدًا لإقامة الدولة الإسلامية -في زعمهم!-.

ومَن تَدَبَّرَ سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِم أنه ما أقامها -نعني الدولة الإسلامية- وَوَسَّعَها أصحابُه على سفك الدماء المعصومة قط، فضلًا عن "التوَحُّشِ" في ذلك، سواءً المسلمين والمعاهدين، بل وغيرِ المعاهدين ممن لا يشارك في القتال وأعمال الحرب -كالنساء والصبيان، والأُجَرَاء، والشيوخ الفانين والرهبان المعتزلين-؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى امرأة مقتولة: (مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأميرِهِ على جيشه: (اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا) (رواه مسلم).

وكما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- لِنَجْدَة الحَرُورِيِّ في بيان حرمة قتل الغلمان: "وَأَنْتَ فَلَا تَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا؛ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ الْخَضِرُ مِنَ الْغُلَامِ حِينَ قَتَلَهُ" (رواه مسلم). أي وهذا مستحيلٌ بلا وحي، وقد انقطع الوحي.

وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبعض أصحابه: (أَدْرِكْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلْ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، وفي رواية: (قُلْ لِخَالِدٍ: لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (عَسِيفًا): أي أجيرًا، كالفلاحين في حقولهم، ونحوهم مِن المدنيين الذين لا يشاركِون في القتال بأي صورة.

فالواجب على كُلِّ ناصحٍ لنفسه ولأُمَّتِه -في الخيارات المعروضة عليه- أن يَمنَع عنهم سفك الدماء ويُجَنِّبهم إزهاق النفوس، والموازنة في هذا واجبة؛ فإن كان في بعض الخيارات قتل الملايين أو مئات الألوف، وفي غيرها قتل العشرات أو المئات مع بقاء الدين: كان الواجبُ دفعُ الخِيار الأول ورفضه، واحتمالُ الخِيار الثاني.

وتأتي منافع النفوس ضمن هذا الباب -وإن كانت دونها في المنزلة-، فمنها: الأَلَم والتعذيب الجسدي، والسجن والحبس؛ فمنعُ ذلك واجبٌ أيضًا، وإن خُيِّرَ بين القتلِ والحبسِ، أو بين القتلِ والضربِ: كان اختيار الحبس أو الضرب أهون الشرور.

وفي هذا تُروى القِصَّة المشهورة -وأَظُنُّهَا على سبيل التمثيل-: أن عَالِمًا تَشَفَّعَ عند مَلِكٍ من الملوك أَمَرَ بقَتْلِ رَجُلٍ مظلومٍ، فقَبِلَ شفاعتَه على أن يقوم بضَرْبِه أمام الناس؛ فقامَ العَالِمُ بإيقافه وضربه؛ فقال الناس: "سبحان الله! يضربه ظُلمًا وعُدوانًا إرضاء للملك الظالم؛ صار مِن أعوان الظلمة!، وهو في الحقيقة ناصحٌ للمظلومِ مُنْقِذٌ له، ضمن مَن يدخلون في قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة:32).

ومِن أَجْلِ الحفاظِ على النفوس شَرَع اللهُ النطقَ بِكَلِمَةِ الكُفر عند الإكراه، قال -تعالى-: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106)، ليس ذلك لأن النفس مُقَدَّمَة على الدين، بل لأن الدين يُمْكِن حِفْظُه بطمأنينة القلب بالإيمان وإن نطق بكلمة الكفر؛ فيُمْكِن حِفظ النفسِ وحِفظ الدينِ معًا.

وقد تتفاوت مسألة حِفظ منافعِ النفوسِ في هذا الباب حسب الأدلة الشرعية؛ فلا يصح الإكراه بالسجن على الزنا: قال -تعالى- عن يوسف -عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف:33)؛ فدل على أن مَن صَبَا ومَالَ إلى مثل هذا الأمر كان مِن الجاهلين.

ونَقَلَ القُرْطُبِيُّ -رحمه الله- الإجماعَ على عدم صحة الإكراهِ على الزنا بالسجن، في حين اختلف العلماء في الإكراه على الزنا بالضرب الشديد والتهديد بالقتل؛ والصحيح جواز الإقدام عليه إذا لم يكن فيه انتهاك حرمة معصوم أو معصومة، قال -تعالى-: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور:33).

قال القرطبي -رحمه الله-: "أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَا انْتَهَاكُ حُرْمَتِهِ بِجَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَسْأَلُ اللَّهُ الْعَافِيَةَ في الدنيا والآخرة. واختُلِف في الزنا، فَقَالَ مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَفْعَلُ أَحَدٌ ذَلِكَ، وَإِنْ قُتِلَ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَهُوَ آثِمٌ وَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْحَسَنُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الزنا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِمَنْ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ.

ثم قال: وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي أَحْكَامِهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا متى أُكْرِه الرجل على الزنا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُحَدَّ، وَلَكِنْ أَسْتَحْسِنُ أَلَّا يُحَدَّ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُرَاعُوا الِانْتِشَارَ -يعني انتشار ذَكَرِه قبل الإيلاج-، وَقَالُوا: مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْقَتْلِ بفعل الزنا جَازَ أَنْ يَنْتَشِرَ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ السُّلْطَانِ" (انتهى من تفسير القرطبي ج10، ص183-184). وهذا هو الصحيح.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "تأمَّلْتُ المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المُكْرَه عليه؛ فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص في غير موضعٍ على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضربٍ أو قيدٍ، ولا يكون الكلام إكراها" (انتهى مِن الفتاوى الكبرى).

وإن كان قد ورد ما يدل على أن الوعيد المُحَقَّق إكراهٌ، كما قال مالك -رحمه الله-: "وَالْوَعِيدُ الْمُخَوِّفُ إِكْرَاهٌ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، إِذَا تَحَقَّقَ ظُلْمَ ذَلِكَ الْمُعْتَدِي وَإِنْفَاذَهُ لِمَا يَتَوَعَّدُ بِهِ" (نقله القرطبي في تفسيره 10/ 190).

قال القرطبي -رحمه الله-: "وَلَيْسَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي الضَّرْبِ وَالسَّجْنِ تَوْقِيتٌ، إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ يُؤْلِمُ مِنَ الضَّرْبِ، وَمَا كَانَ مِنْ سِجْنٍ يَدْخُلُ مِنْهُ الضِّيقُ عَلَى الْمُكْرَهِ. وَإِكْرَاهُ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ مَالِكٍ إِكْرَاهٌ" (تفسير القرطبي 10/ 190).

وقال القرطبي أيضًا: "أُكْرِهَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى الْفَاحِشَةِ بِالسِّجْنِ، وَأَقَامَ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ، وَمَا رَضِيَ بِذَلِكَ لِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَشَرِيفِ قَدْرِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ رَجُلٌ بالسجن على الزنا مَا جَازَ لَهُ إِجْمَاعًا. فَإِنْ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا كان فادحًا فإنه يسقط عنه إثم الزنا وَحْدُّهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَا يَجْمَعُ عَلَى عَبْدِهِ الْعَذَابَيْنِ، وَلَا يُصَرِّفُهُ بَيْنَ بَلَاءَيْنِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78)" (تفسير القرطبي 9/ 187).

ثم يأتي الحفاظ على الأعراض والفروج وما يتعلق بها في ضرورات الإنسان التي يَلزم الحفاظ عليها، والنصح للأهل والمجتمع، والبلاد والأُمةَّ في الحفاظ على ذلك؛ فالدعوةُ إلى الحجاب، ومنعُ الاختلاط المُحَرَّم ومُقَدِّمات الفواحش كُلِّها، وعقوبة مرتكبيها، والتحذيرُ مِن الزنا واللواط، وإقامةُ الحدود على فاعل ذلك، مِن النصيحة الواجبة للأمة في هذا الباب.

والواجب على المسلم أن ينصح لأهله وأُسْرَتِه ومَن تحت ولايته نصيحةً واجبةً في ذلك؛ ليمنع الفواحش ومُقَدِّمَاتِها، وهو في الحقيقة ناصحٌ أيضًا لمُجتمعه ووطنِه؛ إذ أن الأعداء إنما يتمكنون مِن اختراق الأوطان بتدمير أخلاقِ أفرادِها وأُسَرِها واختلال العلاقة بيْن الرجل والمرأة؛ ولذلك وضعوا قِيَمَهُم الفاسدة في نشر الفساد في الأعراض على أولى أولوياتهم في حربهم ضد الإسلامِ وأهلِه.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة