تأملات في النصيحة (5)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
فقد قَالَ سُلْطَانُ العُلَمَاءِ العِزُّ بنُ
عبدِ السَّلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَاعِدَةٌ: إذَا تَعَذَّرَتْ الْعَدَالَةُ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ
وَالْخَاصَّةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ عَدْلٌ: وَلَّيْنَا أَقَلَّهُمْ فُسُوقًا...
وَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
- أَحَدُهَا: إذَا تَعَذَّرَ فِي الْأَئِمَّةِ
فَيُقَدَّمُ أَقَلُّهُمْ فُسُوقًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا كَانَ الْأَقَلُّ
فُسُوقًا يُفَرِّطُ فِي عُشْرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مَثَلًا وَغَيْرُهُ
يُفَرِّطُ فِي خُمُسِهَا لَمْ تَجُزْ تَوْلِيَةُ مَنْ يُفَرِّطُ فِي الْخُمُسِ
فَمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ تَوْلِيَةُ مَنْ يُفَرِّطُ فِي الْعُشْرِ،
وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حِفْظَ تِسْعَةِ الْأَعْشَارِ بِتَضْيِيعِ
الْعُشْرِ أَصْلَحُ لِلْأَيْتَامِ وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَضْيِيعِ
الْجَمِيعِ، وَمِنْ تَضْيِيعِ الْخُمُسِ أَيْضًا، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ
دَفْعِ أَشَدِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا.
وَلَوْ تَوَلَّى الْأَمْوَالَ الْعَامَّةَ
مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِالتَّبْذِيرِ نُفِّذَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْعَامَّةُ إذَا
وَافَقَتْ الْحَقَّ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يُنَفَّذُ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ، إذْ
لَا مُوجِبَ لِإِنْقَاذِهِ مَعَ خُصُوصِ مَصْلَحَتِهِ. وَلَوْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ
بِتَوْلِيَةِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ يَرْجِعُ إلَى رَأْيِ الْعُقَلَاءِ
فَهَلْ يُنَفَّذُ تَصَرُّفُهُمَا الْعَامُّ فِيمَا يُوَافِقُ الْحَقَّ كَتَجْنِيدِ
الْأَجْنَادِ وَتَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ؟ فَفِي ذَلِكَ وَقْفَةٌ.
وَلَوْ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى إقْلِيمٍ
عَظِيمٍ فَوَلَّوْا الْقَضَاءَ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
الْعَامَّةِ، فَاَلَّذِي يَظْهَرُ إنْفَاذُ ذَلِكَ كُلِّهِ جَلْبًا لِلْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ وَدَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ الشَّامِلَةِ، إذْ يَبْعُدُ عَنْ رَحْمَةِ
الشَّرْعِ وَرِعَايَتِهِ لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ وَتَحَمُّلُ الْمَفَاسِدِ الشَّامِلَةِ، لِفَوَاتِ الْكَمَالِ فِيمَنْ
يَتَعَاطَى تَوْلِيَتَهَا لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا، وَفِي ذَلِكَ احْتِمَالٌ
بَعِيدٌ" (قَوَاعِدُ
الأَحْكَامِ فِي مَصَالِحِ الْأَنَامِ، ص 85 - 86).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: "... إذَا تَفَاوَتَتْ رُتَبُ الْفُسُوقِ فِي حَقِّ الْأَئِمَّةِ:
قَدَّمْنَا أَقَلَّهُمْ فُسُوقًا، مِثْلَ إنْ كَانَ فِسْقُ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ
بِقَتْلِ النُّفُوسِ، وَفِسْقُ الْآخَرِ بِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ،
وَفِسْقُ الْآخَرِ بِالتَّضَرُّعِ لِلْأَمْوَالِ، قَدَّمْنَا الْمُتَضَرِّعَ
لِلْأَمْوَالِ عَلَى الْمُتَضَرِّعِ لِلدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ
تَقْدِيمُهُ قَدَّمْنَا الْمُتَضَرِّعَ لِلْأَبْضَاعِ عَلَى مَنْ يَتَعَرَّضُ
لِلدِّمَاءِ.
وَكَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ التَّقْدِيمُ عَلَى
الْكَبِيرِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْأَكْبَرِ وَالصَّغِيرِ مِنْهَا وَالْأَصْغَرِ
عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: أَيَجُوزُ الْقِتَالُ مَعَ
أَحَدِهِمَا لِإِقَامَةِ وِلَايَتِهِ وَإِدَامَةِ تَصَرُّفِهِ مَعَ إعَانَتِهِ
عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ؛ دَفْعًا لِمَا بَيْنَ مَفْسَدَتَيْ
الْفُسُوقَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ، وَدَرْءًا لِلْأَفْسَدِ فَالْأَفْسَدِ.
وَفِي هَذَا وَقْفَةٌ وَإِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ
أَنَّا نُعِينُ الظَّالِمَ عَلَى فَسَادِ الْأَمْوَالِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ
الْأَبْضَاعِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ نُعِينُ الْآخَرَ عَلَى إفْسَادِ
الْأَبْضَاعِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الدِّمَاءِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ.
وَلَكِنْ قَدْ يَجُوزُ الْإِعَانَةُ عَلَى
الْمَعْصِيَةِ لَا لِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً، بَلْ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً إلَى
تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ بِالْإِعَانَةِ
مَصْلَحَةٌ تَرْبُو عَلَى مَصْلَحَةِ تَفْوِيتِ الْمَفْسَدَةِ؛ كَمَا تُبْذَلُ
الْأَمْوَالُ فِي فِدَى الْأَسْرَى الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي
الْكَفَرَةِ وَالْفَجَرَةِ" (قَوَاعِدُ الأَحْكَامِ فِي مَصَالِحِ الْأَنَامِ، ص 86 - 87).
وسُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-: "عَنْ رَجُلٍ مُتَوَلٍّ وِلَايَاتٍ وَمُقْطعٍ إقْطَاعَاتٍ وَعَلَيْهَا
مِنْ الْكُلَفِ السُّلْطَانِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَهُوَ يَخْتَارُ
أَنْ يُسْقِطَ الظُّلْمَ كُلَّهُ وَيَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا قَدَرَ
عَلَيْهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْطَعَهَا غَيْرَهُ
وَوَلَّى غَيْرَهُ فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يُتْرَكُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ بَلْ رُبَّمَا
يَزْدَادُ، وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ تِلْكَ الْمُكُوسَ الَّتِي فِي
إقْطَاعِهِ فَيُسْقِطَ النِّصْفَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ جِهَةَ مَصَارِفَ لَا
يُمْكِنُهُ إسْقَاطُهُ؛ فَإِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ لِتِلْكَ الْمَصَارِفِ
عِوَضَهَا، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا.
فَهَلْ يَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا بَقَاؤُهُ عَلَى
وِلَايَتِهِ وَإِقْطَاعِهِ، وَقَدْ عُرِفَتْ نِيَّتُهُ وَاجْتِهَادُهُ وَمَا
رَفَعَهُ مِنْ الظُّلْمِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ؟ أَمْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ
عَنْ هَذِهِ الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ، وَهُوَ إذَا رَفَعَ يَدَهُ لَا يَزُولُ
الظُّلْمُ بَلْ يَبْقَى وَيَزْدَادُ؟. فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى
الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ كَمَا ذُكِرَ؟ وَهَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي هَذَا
الْفِعْلِ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ؛ فَهَلْ يُطَالَبُ عَلَى
ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ لَهُ: أَنْ يَسْتَمِرَّ مَعَ
اجْتِهَادِهِ فِي رَفْعِ الظُّلْمِ وَتَقْلِيلِهِ، أَمْ رَفْعُ يَدِهِ مَعَ
بَقَاءِ الظُّلْمِ وَزِيَادَةِ؟ وَإِذَا كَانَتْ الرَّعِيَّةُ تَخْتَارُ بَقَاءَ
يَدِهِ لِمَا لَهَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِهِ وَرَفْعِ مَا رَفَعَهُ
مِنْ الظُّلْمِ؛ فَهَلْ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُوَافِقَ الرَّعِيَّةَ، أَمْ
يَرْفَعُ يَدَهُ؟ وَالرَّعِيَّةُ تَكْرَهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهَا أَنَّ الظُّلْمَ
يَبْقَى وَيَزْدَادُ بِرَفْعِ يَدِهِ.
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَعَمْ، إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ وَرَفْعِ
الظُّلْمِ بِحَسبِ إمْكَانِهِ، وَوِلَايَتِهِ خَيْرٌ وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ
مِنْ وِلَايَةِ غَيْرِهِ، وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الْإِقْطَاعِ خَيْرٌ مِنْ
اسْتِيلَاءِ غَيْرِهِ -كَمَا قَدْ ذُكِرَ-؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ
عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْإِقْطَاعِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ بَلْ
بَقَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ إذَا
تَرَكَهُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاجِبًا إذَا
لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ قَادِرًا عَلَيْهِ.
فَنَشْرُ الْعَدْلِ -بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ-،
وَرَفْعُ الظُّلْمِ -بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ- فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ يَقُومُ
كُلُّ إنْسَانٍ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ
فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ، وَلَا يُطَالَبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ
مِنْ رَفْعِ الظُّلْمِ.
وَمَا يُقَرِّرُهُ الْمُلُوكُ مِنْ الْوَظَائِفِ
الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهَا؛ لَا يُطَالَبُ بِهَا، وَإِذَا كَانُوا هُمْ
وَنُوَّابُهُمْ يَطْلُبُونَ أَمْوَالًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا إلَّا بِإِقْرَارِ
بَعْضِ تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَإِذَا لَمْ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَعْطَوْا تِلْكَ
الْإِقْطَاعَاتِ وَالْوِلَايَةَ لِمَنْ يُقَرِّرُ الظُّلْمَ أَوْ يَزِيدُهُ وَلَا
يُخَفِّفُهُ؛ كَانَ أَخْذُ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَدَفْعُهَا إلَيْهِمْ خَيْرًا
لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إقْرَارِهَا كُلِّهَا، وَمَنْ صُرِفَ مِنْ هَذِهِ إلَى
الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ وَمَنْ تَنَاوَلَهُ مِنْ
هَذَا شَيْءٌ أبعدَ عَنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالْمُقْطَعُ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْخَيْرَ
يَرْفَعُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الظُّلْمِ، وَيَدْفَعُ شَرَّ
الشِّرِّيرِ بِأَخْذِ بَعْضِ مَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ؛ فَمَا لَا يُمْكِنُهُ
رَفْعُهُ -وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ- يُثَابُ،
وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَأْخُذُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ.
وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ، وَلَا
إثْمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَهَذَا كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَنَاظِرِ
الْوَقْفِ، وَالْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِيكِ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ
مِمَّنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ أَوْ الْوِكَالَةِ إذَا
كَانَ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ مَصْلَحَتِهِمْ إلَّا بِأَدَاءِ بَعْضِهِ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ لِلْقَادِرِ الظَّالِمِ؛ فَإِنَّهُ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ غَيْرُ
مُسِيءٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا يُعْطِي هَؤُلَاءِ المَكَّاسِينَ وَغَيْرَهُمْ فِي
الطُّرُقَاتِ وَالْأَشْوَالِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اُؤْتُمِنُوا؛ كَمَا
يُعْطُونَهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْعَقَارِ وَالْوَظَائِفِ
الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مَا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَصَرَّفَ
لِغَيْرِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ
وَنَحْوِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الْوَظَائِفَ؛ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ فَسَادُ
الْعِبَادِ وَفَوَاتُ مَصَالِحِهِمْ.
وَاَلَّذِي يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَعَ
ظُلْمٌ قَلِيلٌ: لَوْ قَبِلَ النَّاسُ مِنْهُ تَضَاعَفَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ
عَلَيْهِمْ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانُوا فِي طَرِيقٍ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ
قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَإِنْ لَمْ يُرْضُوهُمْ بِبَعْضِ الْمَالِ أَخَذُوا
أَمْوَالَهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَمَنْ قَالَ لِتِلْكَ الْقَافِلَةِ: لَا يَحِلُّ
لَكُمْ أَنْ تُعْطُوا لِهَؤُلَاءِ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي مَعَكُمْ
لِلنَّاسِ؛ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذَا حِفْظَ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يَنْهَى
عَنْ دَفْعِهِ، وَلَكِنْ لَوْ عَمِلُوا بِمَا قَالَ لَهُمْ ذَهَبَ الْقَلِيلُ
وَالْكَثِيرُ، وَسُلِبُوا مَعَ ذَلِكَ!
فَهَذَا مِمَّا لَا يُشِيرُ بِهِ عَاقِلٌ،
فَضْلًا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ الشَّرَائِعُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بَعَثَ
الرُّسُلَ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ
وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ فَهَذَا الْمُتَوَلِّي الْمُقْطعُ الَّذِي
يَدْفَعُ بِمَا يُوجَدُ مِنْ الْوَظَائِفِ وَيَصْرِفُ إلَى مَنْ نَسَبُهُ
مُسْتَقِرًّا عَلَى وِلَايَتِهِ وَإِقْطَاعِهِ ظُلْمًا وَشَرًّا كَثِيرًا عَنْ
الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنهُ دَفْعُهُ إلَّا بِذَلِكَ؛
إذَا رَفَعَ يَدَهُ تَوَلَّى مَنْ يُقِرُّهُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْئًا؛ هُوَ
مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا ضَمَانَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ
الْوَقْفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ مَصْلَحَتِهِمْ إلَّا بِدَفْعِ مَا
يُوَصِّلُ مِنْ الْمَظَالِمِ السُّلْطَانِيَّةِ إذَا رَفَعَ يَدَهُ تَوَلَّى مَنْ
يَجُورُ وَيُرِيدُ الظُّلْمَ؛ فَوِلَايَتُهُ جَائِزَةٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ
فِيمَا يَدْفَعُهُ؛ بَلْ قَدْ تَجِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ.
وَكَذَلِكَ الْجُنْدِيُّ الْمُقْطَعُ الَّذِي
يُخَفِّفُ الْوَظَائِفَ عَنْ بِلَادِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا كُلِّهَا؛
لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ خَيْلٌ وَسِلَاحٌ وَنَفَقَةٌ لَا يُمْكِنُهُ
إقَامَتُهَا إلَّا بِأَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَهَذَا مَعَ هَذَا
يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِهَادِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ: لَا يَحِلُّ لَك
أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ هَذَا؛ بَلْ ارْفَعْ يَدَك عَنْ هَذَا الْإِقْطَاعِ
فَتَرَكَهُ وَأَخَذَهُ مَنْ يُرِيدُ الظُّلْمَ وَلَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ:
كَانَ هَذَا الْقَائِلُ مُخْطِئًا جَاهِلًا بِحَقَائِقِ الدِّينِ؛ بَلْ بَقَاءُ
الْخَيْلِ مِنْ التُّرْكِ وَالْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ
وَأَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَقْرَبُ لِلْعَدْلِ عَلَى إقْطَاعِهِمْ مَعَ
تَخْفِيفِ الظُّلْمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ
يَأْخُذَ تِلْكَ الْإِقْطَاعَاتِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ نَفْعًا وَأَكْثَرُ ظُلْمًا.
وَالْمُجْتَهِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقْطَعِينَ
كُلِّهِمْ فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ بِحَسبِ الْإِمْكَانِ يَجْزِيهِ اللَّهُ
عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْخَيْرِ، وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ،
وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَأْخُذُ وَيَصْرِفُ، إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا ذَلِكَ
كَانَ تَرْكُ ذَلِكَ يُوجِبُ شَرًّا أَعْظَمَ مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" (مجموع الفتاوى 30/ 356-360).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: "ومِن هذا البابِ إقرارُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعبد
ِالله بن أُبَيّ وأمثالِه مِن أئمةِ النِّفاقِ والفُجورِ، ِلمَا لَهُم مِن
الأَعْوَانِ؛ فإزالة مُنْكَرِه بنوعٍ مِن عِقَابِهِ مستلزمة إزالةَ مَعروفٍ أكبرَ
مِن ذلك، بِغَضَبِ قَومِهِ وَحَمِيَّتِهِم، وبِنُفُورِ الناسِ إذا سَمِعُوا أن
مُحمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه!". (الاستقامة، 2/ 115).
وقَالَ الإِمَامُ أحمدُ بن عبد ِالرحمنِ بن قدامة
-رَحِمَهُ اللهُ-: "وإن
عَلِمَ المُنْكِرُ أنه يُضرَب معه غيره مِن أصحابِه: لَمْ تَجُزْ لَهُ الحِسْبة؛
لأنه عَجَزَ عَن دَفْعِ المُنكَر إِلّا بإِفْضَائِهِ إلى مُنْكَرٍ آخر، وليس ذلك
من القدرة في شيء" (مختصر منهاج القاصدين، ص 118).
ومِن ذلك ما قالَهُ الإِمَامُ ابنُ القَيِّم
-رَحِمَهُ اللهُ-: "نهى
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تُقْطَعَ الْأَيْدِي فِي
الْغَزْوِ" (رواه أبو
داود، وصححه الألباني)؛ فَهَذَا
حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَقَدْ نَهَى عَنْ إقَامَتِهِ فِي
الْغَزْوِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ
مِنْ تَعْطِيلِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ مِنْ لُحُوقِ صَاحِبِهِ بِالْمُشْرِكِينَ
حَمِيَّةً وَغَضَبًا كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمْ،
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي
أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَذَكَرَهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ
فَقَالَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَقَدْ
"أَتَى بِشْرُ بْنُ أَرْطَاةَ بِرَجُلٍ مِنْ الْغُزَاةِ قَدْ سَرَقَ
مِجَنَّهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ لَقَطَعْت
يَدَك"، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ:
وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ" (انتهى مِن إعلام المُوَقِّعين عن رَبِّ العالَمين، 3 / 13).
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com