الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

التراحُم بيْن المؤمنين

المسلم يرضى بقضاء الله ويُسَلِّم، وينزل الله على قلبه برد اليقين والرضا

التراحُم بيْن المؤمنين
ياسر برهامي
السبت ٢٣ يونيو ٢٠١٨ - ١٦:٥١ م
1337

التراحُم بيْن المؤمنين

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن فترات المِحَن التي تمر بها الشعوب والأمم، وأنواع البلايا التي يُبتلى بها المجتمع؛ تقتضي مِن جميع أفراده بثّ روح التراحُم والتعاون والتكافل، قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه)؛ فهل نرى أجزاء البدن تضرب بعضُها بعضًا؟ هل رأينا الرأس تتعارك مع الصدر أو البطن؟ هل رأينا أحدًا يدخل في معركة مع نفسه ويضربها -إلا إذا كان مجنونًا-؟!

فإذا كان مجتمعنا واحدًا، فهل نشعر فعلًا بأننا كجسدٍ واحدٍ؟!

لو قال كلٌّ منا لأخيه بالحب والعطف (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) (يوسف:69)، كما قالها يوسُف -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لأخيه بنيامين؛ ليعوضه ما قد فاته مما فعله بهما إخوتُه الذين لم يشعروا بحقيقة أنهم جسد واحد؛ فحسَدوا وحقَدوا، وكلٌّ منهم يقول "أنا، أنا!"؛ لو فعلنا ذلك لهان علينا كثيرٌ مما نجد مِن آلام المِحَن.

إذا أحب كلٌّ منا أخاه وأعطاه ورَفَق به، وكان حريصًا على مَسَرَّتِه أَعَدَّ الله له عنده أضعافَ ما أعطى؛ فيحبه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أكثر، ويعطيه أكثر، ويرفق به أكثر، ويعطيه ما يَسُرُّه أكثر، وإذا كان هناك حَسَدٌ وحِقْد -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- كان هناك تَعَبٌ وغَيظٌ، وغَضَبٌ ومُنَازَعات، ومشاكل وأخلاق غير حميدة؛ يَتعب بها الإنسانُ ويُتعب مَن معه -نسأل الله أن يُؤلِّف بيْن قلوبنا وأن يُصلح ذات بيننا، وأن يهدينا سُبُلَ السلام، وأن يُخرجنا مِن الظلمات إلى النور، وأن يجعلنا هداة مهتدين-.

إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يجعل البلاء لعباده المسلمين زيادة في أجرهم، وكل منهم يُبتلى على قدر دينه كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما جاء عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً؟ قَالَ: (الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ؛ فَمَا يَبْرَحُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

والله -عَزَّ وَجَلَّ- يُقَدِّرُ عليهم أنواع البلايا والمِحَن؛ ليزدادوا صبرًا ودعاءً وتضرعًا، فالله يحب أن يَسمع دعاء عباده المؤمنين وتضرعهم: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) (الأنعام:43)، وهو -عَزَّ وَجَلَّ- يحب أن نُظهِر فقرَنا إلى ما أنزل إلينا من خير، يُحب منا أن نستيقظ بالليل لنُصَلِّي وندعو ولا نستأخر الإجابة، ولا نقول: قد دعونا كثيرًا فلم يستجب لنا؛ بل قد استجيب -بحمد الله-؛ فإما أن نراها في الدنيا، وإما أن تدخر ليوم القيامة، وإما أن يصرف الله عنا مِن السوء مثلها؛ فبلاء الأمة -وإن طال- هو لكي تسلِّم لله أمرها وتفوضه إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والله بصير بالعباد.

والله -عَزَّ وَجَلَّ- قسَّم الأرزاق بيْن الناس وجعلهم متفاوتين؛ هذا غني وهذا فقير، هذا قوي وهذا ضعيف، هذا عاقل وهذا جاهل، كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء:21)، وهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد فعل ذلك؛ لنعلم نعمة الله ونشكره عليها، كما في الحديث عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- أن آدم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لما رأى تَفَاوُت ما بين بَنِيهِ، فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَحَسَنَ الصُّورَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ؛ فَقَالَ: "رَبِّ لَوْلَا سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ, فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ" (رواه أحمد، وحسنه الألباني، وقال: هو في حكم المرفوع).  

ولم يُقَدِّر -عَزَّ وَجَلَّ- ذلك لنعترض على تقسيمه وعطائه؛ قال -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء:32).

وكذلك ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مثل هذا المعنى ليعالج الحَسَد عند رؤساء قُرَيش إذ قَالُوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31)؛ فقال -سُبْحَانَهُ-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32).

فقول البعض: لماذا اختص الله فلانًا دون غيره؟! أو لماذا اختص الله بلدًا دون بلد بسعةٍ أو بأرزاقٍ أو غير ذلك؟! هي التي تفتح باب الحسد والحقد، وهي التي هَلَك بسببها إبليس، وبسببها قَتَل قابيلُ هابيلَ، وبسببها كفَر فرعونُ وأمثالُه، كما قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ . أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) (الزخرف:51-52)؛ فكانت أزمته الحقيقية في حَسَدِه وحِقْدِه على موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: لماذا اختَصَّه اللهُ بالنبوة والرسالة؛ وهو يرى -على جهله وضلاله- أنه أحق بالاصطفاء والاجتباء؟! مع أنه ينكر وجود الله مع يقينه بأنه هو الذي أنزل الآيات!

فالمسلم يرضى بقضاء الله ويُسَلِّم، وينزل الله على قلبه برد اليقين والرضا.

فاللهم إنا نسألك رضاك الذي لا سخط بعده أبدًا.

اللهم وَسِّع على عبادك المسلمين في كل مكان، وأَذْهِب كُرُباتهم، وَنَجِّهم مِن البلايا والمِحَن، وارفع عنهم الغلاء والوباء والفِتَن.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة