الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

العدالة مع (حزب العدالة)

ما قلته في هذا المقال ليس عداءً لـ"حزب العدالة"، ولا الرئيس "رجب طيب أردوغان"؛ بل هو قراءة الصورة كما أراها

العدالة مع (حزب العدالة)
محمد إبراهيم السعيدي
الأربعاء ٠٤ يوليو ٢٠١٨ - ١٩:٣٤ م
1898

العدالة مع "حزب العدالة"

كتبه/ محمد إبراهيم السعيدي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد كانت تركيا تخوض انتخاباتها البرلمانية والرئاسية "بل وانقلاباتها العسكرية" دون أن يَعلم عنها في العالم العربي والاسلامي سوى المتخصصين في السياسة التركية؛ وربما كان الناس يجهلون تمامًا مَن هو رئيس تركيا ورئيس وزرائه، واستمر ذلك حتى بدأ الصراع في اتجاه التغيير العقائدي في السياسة هناك على يد الرئيس "نجم الدين أربكان" ومعاركه الشهيرة مع "مسعود يالماظ"، و"تانسو تشلر"، وقادة الجيش؛ وهو الصراع الذي انتهى بتنحية نجم الدين أربكان، وفوز تلاميذه المنشقين عنه مِن حزب العدالة والتنمية بقيادة الدولة منذ عام 2002م.

ومِن ذلك الحين، والاهتمام بكل ما يجري في تركيا مِن حراكٍ سياسي محل عناية الشارع الإسلامي "وليس فقط المراقبون أو المهتمون بالعمل السياسي"؛ وسبب ذلك غير خافٍ على أحدٍ؛ ففوز حزب ذي جذور وتوجهات دينية في ظل حرب عالمية ظاهرة وخفية على الإسلام والمسلمين، لابد أن يَحظى بسرور وابتهاج عند عموم المسلمين.

ونتيجة هذه الفترة الطويلة مِن حكم "حزب العدالة والتنمية" كان -بلا ريب- اكتساب الحزب شعبية كبيرة ليس لدى المتدينين الأتراك وحدهم، بل لدى الكثير مِن غير المتدينين أيضًا، والذين لم ترَ بعض أحزابهم بأسًا في التحالف مع حزب العدالة فيما يسمَّى اليوم: "تحالف الشعب"، والذي ينضم فيه إليهم الحركة القومية وحزب الوحدة الكبرى؛ فحزب العدالة حقق نجاحات اقتصادية وسياسية لا يمكن للعين أن تخطئها بلغ أثرها في نفوس كثيرٍ مِن الأتراك، وكثير مِن غيرهم إلى حد الإغضاء عن التضييق الذي مارسته الحكومة على حرية التعبير السياسي، وحالة الطوارئ الممتدة، والاعتقالات التي طالت عشرات الآلاف مِن السياسيين والأكاديميين والقضاة والمدرسين؛ إضافة إلى عشرات آلاف آخرين مِن المفصولين عن وظائفهم، كل هذا تم التغاضي عنه واعتباره ثمنًا يتحتم دفعه لاستمرار النجاحات التي حققها الحزب ورئيسه "أردوغان".

واللافت: أن المكاسب التي تحققت للمتدينين مِن حرية في الشعائر وبناء المساجد وتحفيظ القرآن، والتعليم الديني وارتداء الحجاب، حققها الحزب عن طريق تطبيقٍ للعلمانية أكثر شمولًا مِن التطبيق الذي كانت تمارسه الأحزاب التي حكمت قبْل حزب العدالة، والتي كانت تفهم العلمانية على أنها حرمان المتدينين مِن حقوقهم وأبسطها: ارتداء المرأة لفافةً حول الرأس يسمونها حجابًا، وحقيقتها أنها مجرد لفافة وليست حجابًا شرعيًّا، لكنها أصبحت رمزًا لتدين النساء، وكان يتم رفضه لأجل ذلك، حتى قامت في سبيل ارتدائه معارك سياسية كبيرة في تركيا، أشهرها معركة النائبة "مروة قاوقجي" التي تم طردها مِن البرلمان بسبب لفافتها تلك.

بينما فهم حزبُ العدالة العلمانيةَ على أنها إعطاء الحق للجميع، وتمادت حكومته في تطبيق هذا المفهوم على الجميع إلى حد الإبقاء على المادة المبيحة للدعارة في النظام التركي! والسكوت عن التضاعف الفظيع في أعداد الداعرات مِن جميع الجنسيات في تركيا، ثم السماح للداعرين بإقامة نقابة رسمية تدافع عن حقوقهم وحقوق المتحولين جنسيًّا سنة 2013م. 

بل بلغ التمادي في إثبات تطبيق العلمانية بهذا المفهوم أن يتعهد الرئيس التركي بحماية حقوق المثليين، ويتم إصدار أول مجلة لهم في تركيا، وتسمح لهم السلطات بإقامة مسيرات تحت مسمى: "فخر المثليين!" في كثيرٍ مِن المدن التركية؛ هذا بالرغم مِن كون البرلمانيين المنتمين للعدالة والتنمية مشكورين وقفوا عدة مرات، ونجحوا في إحباط محاولاتٍ لإدراج حق الزواج المثلي في الدستور التركي؛ إلا أنهم فيما سوى ذلك لم يقفوا في وجه حرية المثليين أو حرية التحول الجنسي -للأسف الشديد-؛ وهذا أكثر الأمثلة شناعة فيما يتعلق باستمساك حزب العدالة والتنمية بعلمانية الدولة؛ وإلا فهم يُقِرُّون كل الحريات المعتمدة في دول الغرب ما عدا حرية التعبير السياسي!

وهذه المواقف على شناعتها، فالحكومة التركية تعتبرها مصدر فخر؛ لكونها تدل على استمساكها بالعلمانية تنظيرًا وتطبيقًا!

أما علماء الشريعة الإسلامية مِن المتعاطفين مع الحزب داخل تركيا وخارجها؛ فهم يعتذرون "لأردوغان" وحزبه بأن رسالتهم هي التخفيف مِن الشرِّ الذي كانت تركيا منغمسة فيه، وتقريبها شيئًا فشيئًا مِن الممارسة الصحيحة للإسلام، وهذا برأيهم يُحَتِّم على الحكومة مجاملة القوى المؤثرة، وتقديم تنازلات في قضايا جزئية مِن أجل حفظ التوجه العام في الإقبال نحو تسييد الدين في المجتمع، وهذا المنهج الذي يسير عليه "أردوغان" وحزبه، تخدمه -كما يقولون- الكثير مِن القواعد الفقهية والأصولية والمقاصدية!

هكذا يدافعون عن إسراف حزب العدالة ورئيسه في تطبيق العلمانية! والحقيقة: أن هذا الدفاع قد يبهرنا ونستسلم له نظريًّا؛ لكننا حين نطبقه على الواقع؛ فإننا سنجده يتضاءل كثيرًا، ليصبح مجرد مخادعة للنفس وللآخرين ليس غير!

وسبب ذلك: أنه واقعيًّا لا يوجد قاعدة فقهية أو مقصد شرعي يبيح إعطاء سبعة عشر ألف تصريح لبيوت دعارة في كامل تركيا مِن أجل أن يُسمح لبعض النساء بوضع لفافة على شعرها يسمونها حجابًا؛ فالسماح بالزنا مِن أجل عدم محاربة الحجاب مقايضة خاسرة، ولا يمكن الإقرار بنسبتها للدين والقواعد الشرعية إلا مِن باب العمى في البصيرة.

وكذلك مِن الكذب على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى دينه القويم أن نقول: إنه مِن أجل السماح بمدارس لتحفيظ القرآن للأطفال نُقِر بنظامية اللواط والسحاق؛ فهاتان كبيرتان مِن كبائر الذنوب بإجماع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وحفظ القرآن سنة مؤكدة وليس واجبًا على الأعيان، فالقول بمشروعية السماح باللواط والسحاق مِن أجل أن نظفر بإقرار مدارس حفظ القرآن؛ هذا القول بحد ذاته جريمة!  

والمُزري حقًّا أن الشاذين في عهد حزب العدالة نالوا مِن المكاسب ما لم يكونوا يحلمون به قبْل عهده، وقد اطلعتُ في ذلك على أشياء مخجلة.

وكذلك لا يمكننا أن نقول: إن مقاصد الشريعة تبرر علاقات التصنيع الحربي المتبادلة بيْن تركيا والكيان الصهيوني، والتي يستقوي بها الصهاينة على أعدائهم العرب، ويقتلون الفلسطينيين المسلمين مِن أجل مكتسب رفع شعارات القدس والإسلام والتاريخ العثماني؛ فليس رفع هذه الشعارات مع اتخاذ البلاد مصنعًا حربيًّا لليهود سوى ثمن بخس تُشترى به عواطف الناس ثم تقتل به نفوسهم!

وهذا التناقض شديد الشبه بتناقضها في القضية السورية؛ فهي تُظهر الوقوف مع الشعب السوري المظلوم، ولها في ذلك حقًّا مواقف تُذكر وتشكر مِن إيواء اللاجئين واحتضان القيادات العسكرية والإعلامية للثورة، ولعلها تقدِّم شيئًا مِن الدعم المادي لهم "ليس لدي معلومات تؤكد ذلك أو تنفيه"؛ إلا أنها في الوقت نفسه أكبر داعم للنظام الإيراني الذي هو أكبر قاتل في سوريا! بل إن اللاجئين السوريين إلى تركيا أكثرهم ليسوا فارِّين مِن نظام الأسد، بل مِن جرائم الفصائل الإيرانية "حزب الله - وعصائب أهل الحق - وجيش القدس - و... "، وأثناء ضرب حلب مِن هذه الفصائل الإيرانية؛ قامت الحافلات التركية بنقل الناس مِن حلب الى تركيا بدلًا مِن مساعدتهم على الصمود، وكأنها تدعم القاتلين وتؤوي اللاجئين! بل إن الحكومة التركية التي تعادي الأسد هي الحليف الأول في المنطقة للنظام الروسي "الداعم الوحيد لبقاء نظام الأسد".

وبالرغم مِن هذا الإغراق في التطبيق العلماني، وهذه التناقضات في العلاقات السياسية مع الصهاينة وروسيا وإيران، يحاول إعلام حزب العدالة والمعجبون العرب به، تصوير كل ما يحدث له مِن مشاكل على أنها بسبب سياسة تركيا الإسلامية!

فانخفاض الليرة الذي هو أمر طبيعي يقع لكل الدول التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على التجارة، يحاولون تصويره على أنه في سياق حرب أوروبية على "أردوغان" -رهان المستقبل الإسلامي كما يتصورون!-، مع أن اليورو الأوروبي شهد حالات انتكاس بأكثر مِن ???‏، وليس ذلك لأن أوروبا حامية حمى الإسلام؛ لكن لأن اقتصادها تجاري فتشهد عملتها هزات مثل هذه بيْن الحين والآخر؛ واشتداد نقد الإعلام الأوروبي لأردوغان تم تفسيره على أنه بسبب الخوف مِن المارد التركي!

وأنا لا أنفي أن أوروبا ليس مِن صالحها نجاح تركيا ولا غير تركيا مِن دول العالم الإسلامي، لكن تصوير أوروبا وكأنها ترتعد اليوم مِن تركيا، وأن أردوغان هو سبب هذا الارتعاد لا يعدو كونه تسويقًا إعلاميًّا ساذجًا! لا أشك أنه سوف ينطلي على الملايين مِن داخل تركيا وخارجها.

والحقيقة: أن دول غرب أوروبا لو أرادت تدهور الاوضاع في تركيا فلن يكلفها ذلك أكثر مِن قرار مقاطعة المنتجات التركية، ووضع عقبات أمام السياحة الأوروبية إلى تركيا ليس أكثر.

فموقف الإعلام الأوربي مِن أردوغان ليس له علاقة بإسلامية تركيا أبدًا؛ بل له أسباب أخر، منها: حقوق الإنسان، وهو ملف تستخدمه دول أوروبا الغربية كثيرًا مع جميع الدول، فما بالك بدولة تعرض نفسها للانضمام للسوق الأوربي، وتعلن حالة الطوارئ لمدة عامين، ولا يقدِّم الحزب الحاكم في حملته الانتخابية وعودًا برفعها.

وما قلته في هذا المقال ليس عداءً لـ"حزب العدالة"، ولا الرئيس "رجب طيب أردوغان"؛ بل هو قراءة الصورة كما أراها، ومع كل ذلك فمِن وجهة نظر مراقب مِن بعيد، فإن حزب العدالة والتنمية وأردوغان هما الخيار الأنسب للشعب التركي، وهما القادران على العبور به في هذا المستقبل القريب؛ نعم هما الخيار الافضل لتركيا وحسب، أما أن يكونا خيارًا للأمة الإسلامية؛ فغير صحيح، ومحاولة الترويج لهذا المفهوم أمر خطير، وليس في صالح تركيا، ولا في صالح المسلمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com