الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (6)

فالبيت قيام للبشرية، وخرابه إيذان بخراب العالم وانتهاء الدنيا

تأملات في حجة الوداع (6)
ياسر برهامي
الأحد ٠٢ سبتمبر ٢٠١٨ - ١١:٤٩ ص
1111

تأملات في حجة الوداع (6)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي قول جابر -رضي الله عنه-: "اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَام- فَقَرَأَ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125)؛ فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، وَ"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، أن الطواف بالبيت عبادة فريدة، لا تُشرَع إلا في مكانٍ واحدٍ في العالَم وهو حول الكعبة المُشَرَّفة زادها الله تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابةً، قال -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:96-97).

وتسمية الحج -الذي هو القصد- بحج البيت رغم أنه يتضمن أركانًا أخرى وواجبات -كالإحرام، والوقوف بعرفة، والسعي بيْن الصفا والمروة، والحلق أو التقصير، والواجبات في المشاعر كمزدلفة ومنى ورمي الجمار- إيذان بأن الطواف هو المقصود الأصلي؛ فنحن نحج البيت العتيق، هذا هو المقصود الأصلي لعبادة الحج، وشُرِعت المناسك الأخرى لنعود مرة أخرى إلى البيت، إذا خرجنا إلى عرفة في الحِلِّ، قال -تعالى-: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29).

فالطواف بالبيت -طواف الإفاضة- هو ركن الحج الذي لا يصح الحج بدونه ولو إلى آخر العمر؛ وما ذاك إلا لأثر الكعبة المشرفة، الذي جعله الله في قلب الإنسان مِن الهداية، فالبيت قيام للبشرية؛ بدونه لا تحصل هداية للإنسان، سواء في توجهه إليه في الصلاة، أو الطواف به في الحج والعمرة، بل لا يستمر وجود البشر إلا بوجود الكعبة؛ فإن مِن أشراط الساعة هدم الكعبة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ) (متفق عليه)، وهذا عندما لا يوجد في الأرض أحد مِن أهل التوحيد يقول: "الله الله"، قال الله -تعالى-: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ) (المائدة:97).

فالبيت قيام للبشرية، وخرابه إيذان بخراب العالم وانتهاء الدنيا، وقد ثبت أن عيسى -عليه السلام- سوف يحج أو يعتمر أو يقرن بينهما، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا) (رواه مسلم)، فدل ذلك على وجود الكعبة إلى ما بعد زمن المسيح -عليه السلام-بعد الدجال ويأجوج ومأجوج، ودل على أن هدم الكعبة يكون بعد هذه الأشراط الكبرى للقيامة.

والطواف بالكعبة بالحج والعمرة هو العبادة التي تصح مِن الطفل غير المميز، دون العبادات الأخرى -كالصلاة والصيام- التي لا يشرع أن يؤمر بها الصبي غير المميز دون سبع سنين؛ أما الحج والعمرة فيؤديهما الرضيع يُطاف به؛ وهذا والله أعلم لأن البيت هدىً للعالمين، هداية الكعبة للإنسان إذا قصده الإنسان مُعَظِّمًا له أو قُصِد به ليس مرتبطًا بعمره ولا تمييزه؛ بل تحصل الهداية لكل مَن تَوَجَّهَ أو تَوَجَّهَ به أهلُه للبيت الحرام، لأنه هداية للعالمين.

والطواف بالبيت يذكِّر المرء بطواف المخلوقات حول محورٍ واحدٍ، فالكواكب تدور حول الشمس، والمجرات تدور حول مركزها، والإلكترونات تدور حول نواة الذرة، والعجب أن اتجاه دوران هذه الأشياء هو نفس اتجاه دوران الطواف حول الكعبة، عكس اتجاه عقارب الساعة، وذلك أن يجعل البيت عن يساره طول فترة طوافه.

ونحن نؤدي هذه العبادة بالتسليم والامتثال في المكان وفي العدد وفي الاتجاه؛ عبودية ورِقًّا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويحصل بها مِن هداية القلب ما لا يمكن تحصيله إلا بها مع استطاعة الإنسان لها، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)؛ ولذا لابد فيه -عند جمهور أهل العلم- مِن شروط الصلاة، مِن الطهارة وستر العورة؛ تشريفًا لهذه العبادة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: (إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ) (متفق عليه).

فلا يصح الطواف مِن حائضٍ ولا نفساء ولا جُنُب، بل ولا مُحْدِثٍ حدثًا أصغر، وفي الصحيح أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ ثم طاف بالبيت.

ويَلزم وَلِيُّ المرأة أن ينتظرها حتى تطهر إذا حاضت قبْل أن تطوف طواف الإفاضة بالحج، وكذا طواف الركن في العمرة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أُخْبِر أن صفية بنت حُيَيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حاضت بعد أيام منى: )عَقْرَى حَلْقَى مَا أُرَاهَا، إِلَّا حَابِسَتَنَا) (رواه البخاري ومسلم، وابن ماجه واللفظ له)، فقيل له: "إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ -يوم النحر- وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَلْتَنْفِرْ) (متفق عليه)، فأسقط عنها طواف الوداع، وكان ينوي أن يُحبس -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها حتى تطهر إذا لم تكن قد طافت طواف الإفاضة؛ فدل ذلك على ضرورة أن تكون المرأة طاهرة مِن الحيض والنفاس حين تطوف طواف الإفاضة.

والتساهل في هذا المسألة "أعني طواف الحائض لتدرك الرحلة والرفقة": أخذًا بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا، مع كونه مخالفًا للنص الواضح: (غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي) (متفق عليه)، إلا أنه أيضًا لا ينطبق على واقعنا؛ لأن خوف الضياع والهلاك -الذي علَّق ابن تيمية الأمر عليه- غير حاصل على الإطلاق في زماننا، وليس إلا فوات بعض مصالح الناس في العمل والوقت وحجز الطيران والفنادق ونحو ذلك، وكله يمكن تعديله، وهو مِن النفقات اللازمة -أعني تعديل ذلك ولو تَكَلَّف- حتى يُدرك الواجب وتحصل المصلحة الأعظم بطواف المرأة طواف الركن وهي طاهرة، ولا يوجد اليوم خوف الضياع والهلاك إذا فاتت الرفقة.

والمَحْرَم إذا ترك المرأة التي حاضت أَثِم هو، ويلزمها أن تنتظر هي، حتى لو عادت لبلدها بغير محرم؛ لأنها تبقى لتحصيل الواجب، بل الركن، كما لو ترك المحرم المرأة أثناء السفر لم يكن عليها إثم بالسفر بدون محرم وإنما عليه هو.

والطواف بالبيت توحيد لله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يجوز أن تصرف هذه العبادة لغير الله في غير هذه البقعة، فالطواف حول القبور والمشاهد، كما يفعله الرافضة والغلاة، ويجعلون للطواف بها طقوسًا وضلالات ما أنزل الله بها مِن سلطان، هو مِن مظاهر الشرك والوثنية، التي لابد أن تُحَارَب وتُبْطَل؛ لأنها مِن أمور الجاهلية المنافية للتوحيد.

وقوله: "ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَام- فَقَرَأَ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)" بعد أن انتهى مِن الطواف؛ امتثالًا لأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125)؛ وهذا يدل على أن كمال الامتثال في هذه الشعيرة يتم بأن يجعل المقام -وهو الحَجَر الذي كان يقف عليه إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ليرفع البناء بينه وبين البيت، ويصلي ركعتين خلفه، وإن كان هذا ليس شرطًا في ركعتي الطواف، ولكن هو السُنَّه التي ينبغي أن يُحافِظ عليها الإنسان ما استطاع، ولو صَلَّاها في أي مكان في المسجد صَحَّ، بل وقد نقل عن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أن تُصَلَّى خارج المسجد، ولكن لا ينبغي أن يُفَرِّط الإنسان في هذا مع قدرته عليه؛ ليأخذ ثواب الامتثال لقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة