الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

هل حقًّا يزعجهم التستر خلف النقاب أم يزعجهم النقاب نفسه؟!

أقل ما يقال على هذه الشبهة أنها تنشئ حقًّا متوهمًا

هل حقًّا يزعجهم التستر خلف النقاب أم يزعجهم النقاب نفسه؟!
عبد المنعم الشحات
الخميس ٠٨ نوفمبر ٢٠١٨ - ٠٩:٢٧ ص
4011

هل حقًّا يزعجهم التستر خلف النقاب أم يزعجهم النقاب نفسه؟!

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

أولًا: تمهيد:

بيْن الحين والآخر يخرج علينا مَن ينادي بمنع النقاب، ويسوق مسوغاتٍ مِن نوعية أنه ليس مِن الدين أو أنه مستورد مِن الخليج، أو أنه يعبِّر عن رؤيةٍ متشددةٍ، أو أنه يُشعِر غير المنتقِبة بالحرج وكأنها هي المقصِّرة! إلى آخر هذه القائمة الطويلة مِن الحجج.

وكما تلاحظ، فإن هذه الحجج أو معظمها يمكن أن يُقال على الحجاب ذاته، وبالتالي فقد يستعمل بعضهم ذات المنطق العجيب في ذم الحجاب ذاته، بل بلغت الجرأة على العدوان على الشريعة الإسلامية في بلد الأزهر أن يدعو كاتب صحفي إلى مليونية لمنع الحجاب، وهي مليونية ولدت مبتورة لم يخرج فيها حتى الداعي إليها!

وربما يكون هذا الكاتب -أو غيره- ممَن يتعجلون المواجهة مع الحجاب قد تجاوزوا كل الخطوط الحمراء؛ لأن الأزهر بكل هيئاته يدرس الإجماع على أن كل ما عدا وجه المرأة وكفيها واجب الستر بلا نزاع، وبالتالي فمحاولة الاقتراب منه هي تحدٍّ سافرٍ للأزهر ولعامة الشعب الذي لا يقبل أن يحظر أو يمنع ما أوجبه الله، بل إن مَن ابتلاها الله بالتقصير في هذه الطاعة لا يمكن لها أن تفرح أو تدعو أو تطلب أن يمنع غيرها مِن الالتزام بشرع الله -عز وجل-.

وأما النقاب فما زال يشعر المهاجمون له أن أمامهم فسحة في مهاجمته بناءً على أن الشائع بيْن علماء الأزهر أنهم يقولون: "النقاب فضيلة لا فريضة".

وربما وجدوا أن بعض العلماء الآن يقولون بالإباحة أو حتى الكراهية، وهي أقوال تُفهم على غير وجهها؛ وإلا فالمذاهب الأربعة -وغيرهم- منهم مَن يقول: إن ستر الوجه والكفين واجب. ومنهم مَن يقول: بل هو مستحب. وكثير مِن القائلين بالاستحباب يرون الوجوب حالة خشية الفتنة.

وهذا الستر يكون بإدناء الجلباب ولو بالإسدال على الوجه أو بالنقاب -وهو المشدود على الوجه-، ونحن في عرفنا الدارج نسمي الجميع نقابًا، ولكن إن نقلنا عن الأئمة؛ فيجب أن نعرف اصطلاحهم جيدًا، فمَن نصَّ على كراهة النقاب مِن المالكية هم أنفسهم مَن يقول بأن ستر الوجه أصله الإباحة، ثم يرفعون درجته بحسب الأحوال حتى يرفعونه إلى درجة الوجوب كما جاء في "مختصر خليل" كراهة النقاب للمرأة في الصلاة، وعلَّق عليه العلامة "الدردير" بأنه مكروه فيها وفي خارجها، وجاء أيضًا فيه في باب الحج: "حرم بالإحرام على المرأة: لبس قفاز، وستر وجه؛ إلا لسترٍ بلا غرز وربط".

وقال الدردير في الشرح الكبير في ثنايا شرح هذا الكلام: "(إلَّا لِسَتْرٍ): عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فَلَا يَحْرُمُ، بَلْ يَجِبُ إنْ ظَنَّتْ الْفِتْنَةَ بِهَا".

وقال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: "حَاصِلُهُ أَنَّهُ مَتَى أَرَادَتْ السَّتْرَ عَنْ أَعْيُنِ الرِّجَالِ جَازَ لَهَا ذَلِكَ مُطْلَقًا عَلِمَتْ، أَوْ ظَنَّتْ الْفِتْنَةَ بِهَا أَمْ لَا، نَعَمْ إذَا عَلِمَتْ، أَوْ ظَنَّتْ الْفِتْنَةَ بِهَا كَانَ سَتْرُهَا وَاجِبًا".

وقال العلامة الدردير في الشرح الكبير أيضًا في معرض بيان عورة المرأة: "وعورة الحرة مع رجل أجنبي منها أي ليس بمحرم لها، جميع البدن غير الوجه والكفين، وأما هما فليسا بعورة، وإن وجب عليها سترهما لخوف فتنة".

فأوجب عليها ستر الوجه والكفين في حالة خوف الفتنة، ولكن بغض النظر عن هذا كله؛ فإن هذه الأقوال لا تعطي لأحدٍ حق المناداة بإصدار تشريع لمنع النقاب؛ لأن "التبرج" المجمع على تحريمه يحظى بحمايةٍ قانونيةٍ وإعلامية كبيرة تحت شعار الحرية الشخصية، ولا يملك العلماء والدعاة إزاءه إلا النصيحة؛ هذا مِن الناحية النظرية، وإلا فمِن الناحية العملية فهناك تقصير واضح جدًّا -على الأقل- في إنكار منكرات التبرج، ونصيحة مَن تقع فيها -على الأقل- بطريقةٍ تتناسب معها كمًّا وكيفًا؛ لا سيما وأن بلاد المسلمين قد عرفت في السنوات الأخيرة نمطًا مِن الأزياء يندى لها جبين كل غيور!

وبالتالي: إذا كانت الحرية الشخصية سوف تجعل الجميع يقف في التصدي للأمور المحرمة عند حد النصيحة نظريًّا، والصمت شبه التام عمليًّا؛ فلا يتصور أن يتحرك البعض لإصدار قانون لمنع "النقاب" بدعوى أنه ليس فريضة، حتى لو نزلوا به عنوة عن رتبة الفضيلة!

وكذلك فإن الرافضين للنقاب الساعين لإصدار قانونٍ يمنعه يحيدون عن هذا إلى ادعاءات أنهم إنما يسعون لمنعه؛ لأن له اضرارًا تحتم التدخل التشريعي لحماية المجتمع مِن هذه الأضرار، وبالتالي يجوز حينئذٍ أن تقيد تلك الحرية الشخصية مِن أجل حماية المجتمع ككل.

وفي الواقع: أنا لا أدري كيف يمكن أن يواجِه نائب برلماني الشعبَ الذي مِن المفترض أنه يمثِّله حينما يتلاعب بأدوات نيابته عنه بهذه الصورة؟! أعني هؤلاء النواب الذين يصرِّحون برفضهم للنقاب مِن حيث كونه نقابًا، مما يعني أنهم بصدد إبداء رأي أو موقف في قضية لا تتعلق بالتشريعات والقوانين، وغاية ما يسمح فيها هو المناقشات الفكرية مهما بلغت درجة رفضهم للنقاب، ثم إذا بهم يتحايلون ويقدِّمون مشروع قانون لمنع النقاب، وكأن مشكلتهم ليست مع النقاب ولا مع المنتقبات، وإنما مع المتسترين والمتسترات خلف النقاب مِن أصحاب الجرائم الجنائية أو الإرهابية.

ومع هذا، فنحن مضطرون أن نتجارى معهم في هذا الباب ونناقشهم ونحاورهم؛ لنبيِّن لهم ثم لباقي زملائهم النواب الذين سيطلب منهم التصويت على هذه المقترحات إذا تقدم أصحابها بها فعليًّا، وهو خطاب لكل عاقل حريص على مصلحة البلاد واستقرارها، وعلى تجفيف منابع الإرهاب فيها؛ لأن دعاة التكفير والتفجير إنما يجندون الشباب ويجعلونهم نارًا تحرق أوطانهم استثمارًا لحالة الغضب والضيق التي تنتج عن مثل هذه التصرفات، فإذا ما دعاهم أصحاب الدعوات الإصلاحية بأن يتواصوا بالحق ويتواصوا معه بالصبر، كما أمر الله -تعالى-؛ ردَّ عليهم نفرٌ كثيرٌ مِن هؤلاء الشباب: إلى متى الصبر؟ وماذا فعلتم بصبركم؟!

بل ربما قالوا: بل أنتم جزء مِن هذه المفاسد؛ إذ تكتفون في إنكارها بالنصيحة والبيان، ويبقى الحليم حيرانًا بيْن هؤلاء وأولئك، وإلى الله المشتكى، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثانيًا: مناقشة الأضرار التي يدَّعى وجودها في النقاب:

بيَّنا في التمهيد: أن مسألة إصدار قانون يمنع النقاب لا يمكن تسويغها بأن جمهور الفقهاء يقولون بعدم وجوبه، بل ولا حتى على فرض وجود مَن يقول بأنه مباح أو حتى مكروه، وذلك بناءً على أن التبرج المجمع على تحريمه يُعامَل قانونًا على أنه داخل في حدود حرية الاختيار الشخصي، ولا يملك الدعاة حتى في المؤسسات الدينية الرسمية إلا تقديم النصيحة بشأنه، وبالتالي فحتى لو نزلوا بحكم ستر الوجه والكفين عن رتبة الاستحباب، وهي أقل ما وصف به حكمهما في المذاهب المعتبرة؛ فإن هذا لن يكون مسوغًا لإصدار قانون بمنعه، فلم يبقَ مِن ذريعة قانونية إلا ادعاء أن له اضرارًا، أو أنه متعارض مع حقوقٍ أخرى.

ويمكن تلخيص ما ادعوه في النقطتين الآتيتين:

- النقاب يخفي شخصية مَن يرتديه، ومِن حق المجتمع أن يعرف شخصية الأفراد الذين يسيرون في الطريق أو يتواجدون في الأماكن العامة.

- تَخفي بعض المجرمين في زي النقاب في جرائم الإرهاب والسرقة والخطف، وتخفي بعض الرجال فيه لتسهيل لقائه مع فتاة أو سيدة يكون على علاقة محرمة بها.

1- الجواب على شبهة: أن النقاب يخفي شخصية مَن يرتديه، ومِن حق المجتمع أن يعرف شخصية الأفراد الذين يسيرون في الطريق أو يتواجدون في الأماكن العامة:

أقل ما يقال على هذه الشبهة أنها تنشئ حقًّا متوهمًا، وهو حق معرفة أفراد المجتمع لمعلوماتٍ تفصيليةٍ عمَن يتواجدون في الأماكن العامة، ثم يتم استعمال هذا الحق المتوهم في العدوان على الحق الثابت للمنتقبة، ولا يخفى على أي مدققٍ في هذه الشبهة أنها تخفي وراءها روحًا عدائية تجاه النقاب؛ للموقف السلبي الذي يتخذه مَن يردد تلك الشبهة تجاه النقاب.

ويتضح هذا بالأمور الآتية:

- تلزم قوانين المرور (وليس فقط تبيح) سائقي الدراجات النارية بلبس خوذة -حماية لهم مِن الحوادث-، ومع هذا لم نرَ مَن يشتكي مِن أنه لا يعلم أعيان سائقي هذه الدراجات، مع العلم بأن استعمال الدراجات النارية في الجرائم سواء الجنائي منها أو الإرهابي أكثر بكثيرٍ، ولكن هذا لم يدفع أحدًا إلى منع حق المواطن العادي في ركوب هذه الدراجة، بل وألزمه القانون حال ركوبها أن يخفي وجهه بتلك الخوذة.

- مجرد رؤية وجوه مَن حولك لا تجعلك تعرف أعيانهم، ولا تتضمن وجوههم أكثر مما تعرفه عندما تدخل منتقبة إلى جامعةٍ أو تصعد إلى قطار أو مترو، فتعرف فقط أن هاهنا إنسانًا أو انسانة.

وأما التأكد مِن جنس مَن حولك؛ فأيضًا لا يمنحه لك مجرد رؤية وجوه مَن حولك إذا تصورنا أن الغرض مِن القانون هو تتبع مَن يتخفى خلف النقاب، وليس تتبع المنتقبات، فما زال أمام الرجل الذي يريد لأي غرضٍ جنائي أو غيره أن يبدو في صورة الأنثى اللجوء إلى الملابس والإكسسوارات والمكياج، فهل سيكون مصير هذه الاشياء المنع هي الأخرى هروبًا مِن احتمالية تخفي أحدٍ بواسطتها.

وأخيرًا: فإن محكمة القضاء الإداري "وأيدتها المحكمة الإدارية العليا، ثم دائرة توحيد المبادئ في المحكمة الإدارية العليا" قد قرروا جميعًا: أن حق التثبُّت مِن شخصية المواطن لا يكون إلا في الحالات التي حددها القانون، وأن هذه الحالات لا تبيح إصدار قرارٍ يمنع مِن النقاب، وانما يجب توفير موظفة تقوم بهذا الأمر أو حتى موظف، وبشرط أن يكون هذا تحت رقابة القضاء، ولكن لا يتعدى على حرية المنتقبة مِن أجل ذلك، وذلك في الطعن رقم: 3219 لسنة 48 القضائية عليه.

ومما جاء فيه: "فإنه يجوز متى اقتضت الضرورة والصالح العام التحقق مِن شخصية المرأة، نزولًا على مقتضيات الأمن العام أو لتلقي العلم والخدمات المختلفة، أو لأدائهما، أو لغیر ذلك مِن الاعتبارات التي تتطلبها الحیاة الیومیة المعاصِرة، والتي تستوجب التحقق مِن شخصية المرأة متى طُلب منھا ذلك مِن الجھات المختصة، وذلك لإحدى بنات جنسھا أو لمختصٍ معینٍ مِن الرجال، وبالقدر اللازم لتحقیق ما تقدم تحت رقابة القضاء".

ومما جاء في هذا الحكم أيضًا: "قام الحكم على أن إسدال المرأة النقاب أو الخمار على وجھھا إن لم یكن واجبًا شرعيًّا في رأي، فإنه في رأي آخر ليس بمحظورٍ شرعًا، ولا يجرمه القانون كما لا ینكره العرف، ویظل النقاب طلیقًا في غمار الحریة الشخصية، ومحررًا في كنف الحریة العقدیَّة، ومِن ثَمَّ لا یجوز حظره بصفةٍ مطلقةٍ أو منعه بصورةٍ كلیةٍ على المرأة، ولو في جھةٍ معینةٍ أو مكانٍ محددٍ؛ مما یحق لھا ارتیاده لما یمثِّله ھذا الحظر المطلق أو المنع الكلي مِن مساسٍ بالحریة الشخصية في ارتداء الملابس، ومِن تقیید للحریة العقدیَّة ولو إقبالًا على مذھبٍ ذي عزیمة أو إعراضًا عن آخر ذي رخصة، دون تنافرٍ مع قانون أو اصطدام بعرفٍ، بل تعریفًا وافیًا لصاحبته، ومظھرًا مغریًا بالحشمة، ورمزًا داعیًا للخلق القویم، عامة فلا جناح على امرأة أخذت نفسھا بمذھب شدد بالنقاب ولم ترتكن إلى آخر خفف بالحجاب".

وما أجدر كل مَن يدعو إلى منع النقاب مِن تدبر تلك العبارة، على الأقل مِن كلام المحكمة.

لقد ظل الداعون الى خلع النقاب يخاطبون المرأة المنتقبة أنهم مشفقون عليها، يريدون اطلاعها على ما حجبه عنها المتطرفون -بزعمهم- مِن أن جمهور أهل العلم يرون استحباب ستر الوجه والكفين دون الوجوب، ولكن هذا لم يزد المنتقبات إلا إصرارًا؛ لما يشاهدنه بأنفسهن مِن مآلات الأمور، وأن النقاب ليس وحده المستهدف، وأن كثيرًا ممَن يستهدف النقاب إذا سنحت الفرصة استهدف الحجاب ذاته، ثم إنهن يعلمن أن كثيرًا ممَن يقول بالاستحباب كأصلٍ يقول بالوجوب في الفتنة.

ثم يبقى دائمًا التساؤل عند المنتقبات: لماذا تُجيش جهود هؤلاء المشفقين عليها لنزع نقابها؟! ولماذا لا يصرفون جزءًا مِن شفقتهم إلى الكاسيات العاريات؟! فينصحونهن ويدعونهن إلى التوبة؛ شفقة حقيقية عليهن، فإن أعظم شفقة أن يشفق الإنسان على نفسه، وعلى أهل بيته، وعلى جيرانه، وجميع الناس مِن أن يفعلوا ما يغضب الله، وما يستجلب عليهم عقابه.

فلما لم يجدِ خطاب الشفقة نفعًا: إذ بهؤلاء المشفقين يكشرون عن أنيابهم، ويسلقون المنتقبات بألسنةٍ حدادٍ حتى وقع مَن هو في منزلة الوالد والأستاذ والمعلِّم لبعض المنتقبات في سخريةٍ غير لائقة منهن، وإن كان قد اعتذر عنها لاحقًا. نسأل الله أن يقيل عثراتنا جميعًا.

ثم لما لم يجدِ هذا؛ جاء الاحتماء في مشاريع القوانين التي تدعو إلى إرغام المنتقبة على خلعه بالطرد مِن الوظيفة، وبالمنع مِن دخول الجامعة، وإذا تحملت هذا كله فبتطبيق غرامة! هذه هي الشفقة! وهذه هي حقوق المرأة! وهذا هو التحضر! وهذا... !

وكل هذا لإرغام المنتقبة على أن تترك اختيارها، ولكن يُغلف بغلاف أن هذا ليس إلا لحق المجتمع في معرفة مَن يتواجد فيه، وبذريعة وجود مَن يتستر خلف النقاب، وهي الذرائع التي بيَّنا تهافتها.

ألا فليقف كل واحد مع نفسه وقفة صدق، ويراجع حقيقة دوافعه في كل تصرفٍ؛ لا سيما ما يتعلق منها بشؤون الشريعة الإسلامية؛ لا سيما إذا كان أمرًا عامًّا.

2- الجواب عن شبهة تَخفِّي بعض المجرمين في النقاب:

ما زال الافتراض قائمًا مع مقدمي هذه الاقتراحات أن الغرض ليس إجبار المنتقبات فعليًّا على مسلك خلاف ما اخترنه، ولكن المقصود حماية المجتمع ممَن "يتسترون خلف النقاب"، ونحن لا ننكر أن المجرمين يتخفون في صورٍ كثيرةٍ، فربما تخفى بعضهم في بعض الجرائم في زي شرطي، وربما تخفى في زي رجل دين، وربما تخفى الرجل في زي امرأة شديدة التبرج ليلفت إليه الانتباه بينما زميله يسرق، وربما تخفى في زي امرأة عجوز تطلب المساعدة، وربما... وربما... وربما تخفي في النقاب!

إذن الصورة ليستْ أنك أمام مجرمين متى منعتَ النقاب سوف يعجزون عن إتمام إجرامهم أو حتى يقل معدل تمكنهم منها؛ لأن صور التخفي كثيرة جدًّا، كلها أكثر حبكًا للدور مِن النقاب، بل بعضها يعطي المجرم سلطة أوسع كالتخفي في زي رجل شرطة -مثلًا-.

ففرق بيْن إثبات أنه حدثتْ حالات تخفى فيها المجرم في النقاب، وبيْن الزعم أننا إذا منعنا مَن تريد أن تنتقب فعلًا (حتى يمحى مِن المجتمع النقاب، وبالتالي يمنع تستر المجرمين فيه) أن هذا سوف يوقف الجريمة أو حتى يقللها!

والآن كاميرات المراقبة تملأ كل المحلات، وتُراجَع عند حوادث سرقة أو الاختطاف، فيمكن أن يبحث أي أحدٍ على اليوتيوب ليرى كم هي نسبة الجرائم التي سجلتها الكاميرات، وتخفَّى فيها المجرم في النقاب بالنسبة إلى الجرائم التي قامتْ على عنصر المغافلة أو الإيحاء أو التنكر في هيئاتٍ أخرى غير النقاب.

هذا في الحوادث الجنائية، وأما الحوادث الإرهابية، فاستعمال النقاب فيها لا يكاد يوجد؛ لأن مَن يريد أن يفجِّر نفسه يريد أن يبدو شخصًا لا تميزه أي علامة حتى يصل إلى هدفه، ومَن يريد أن يشتبك يرتدي في الغالب ملابس عسكرية أو رياضية.

ويبقى السؤال قائمًا وملحًا: هل المطلوب منع المنتقبات مِن النقاب أم منع المتسترين في النقاب؟!

3- منع النقاب مِن أجل حراسة الفضيلة:

رسم أحد رسامي الكاريكاتير رسمًا لرجلٍ متخفٍّ في زي منتقبة مع امرأةٍ، وهما في حيرة مِن أمرهما: كيف سيلتقيان دون أن يشعر زوجها بعد حظر النقاب؟!

وهذه يعني أن أحد مسوغات منع النقاب هو منع هذين المنحرفين مِن استغلال النقاب؛ سترًا لانحرافهما. حسنا، ولكن هل مَن يدعون إلى هذا القانون بالفعل يريدون تفعيل دور الدولة في حراسة الفضيلة؟!

حسنًا، إذا منعنا النقاب وفوتنا على هذا الفاسد فرصة التخفي فيه كما يروِّج لذلك المروجون؛ ألا يمكنه طالما قد رضي لنفسه أن يرتدى زي النساء أن يتنكر في زي متبرجة؟!

ثم هذا الرجل الذي تعلق بامرأةٍ متزوجةٍ كل هذا التعلق حتى رضي لنفسه أن يتأنث ليتمكن مِن لقائها؛ ترى ما الذي أوقعه في هذه الحالة مِن التعلق؟! وهل يمكن أن يصدر تشريع طالما أن المطلوب حراسة الفضيلة يمنع أو -على الأقل- يضيِّق فرص هذا التعلق، ونكون قد عالجنا المسألة مِن جذرها أم أن هذا سيصطدم بالحرية الشخصية وسيُدعى حينها أن محاولة تضييق الخناق على المنحرفين هي رمي للجميع بالانحراف، وربما ادعي أنه لا توجد هذه الانحرافات إلا في خيالات المتطرفين، وهكذا... ؟!

كم كنا نتمنى لو حدث توافق مجتمعي حقيقي على عمل حملات إعلامية مكثفة لحماية الفضيلة، ولن أبالغ في خيالي فأتصور أن هناك مَن يريد إرادة حقيقية أن تسن قوانين غرضها حراسة الفضيلة؛ لا سيما أن صاحب هذا الرسم الكاريكاتيري تدور معظم رسوماته حول أمورٍ خادشة للحياء العام، ومنها هذا الكاريكاتير نفسه. نسأل الله لنا وله الهداية.

4- انتقائية التطبيق:

إذا لم تكن مقتنعًا أن هذه التحركات لإصدار تشريع يمنع النقاب هي تحركات غرضها العدوان على حرية المنتقبات في ارتدائه، وليس منعه حتى لا يتستر فيه متستر؛ فاسمع لهذا الحوار حيث راسل أحد مواطني دولة خليجية نائبًا ممَن ينشطون في هذا الموضوع متسائلًا عن مصير السائحين الخليجيين إذا صدر هذا القانون، وعندهم عادات تحتم على نسائهم ارتداء النقاب؟ فكان الجواب: إن مشروع القانون سينص على أنه خاص بالمصريات!

يعني النقاب المصري عيبه عندهم أنه قادم مِن الخليج، وبالتالي ينادون بمنعه، وأما النقاب الخليجي فيرحب به مِن أجل دخل السياحة (ماذا يسمَّى هذا؟!).

ثم ألم تدَّعوا أن الغرض منع تستر الإرهابيين في النقاب؟!

فما الذي يضمن لكم بعد ان تقمعوا المنتقبات المصريات في بلادهن ثم ترحبوا بالأخوات الخليجيات والأوروبيات و... وكل شعب فيه مَن انزلق إلى دائرة الإرهاب كما نعلم، وداعش لها سوق رائج في بعض حديثي الإسلام في أوروبا، فما الذي يضمن لكم ألا تستعمل دائرة الإذن هذه وإن كانت ضيقة في التستر على أعمال إرهابية؟!

ثم ماذا عن الآلية؟

هل ستُسأل المنتقبة عن جنسيتها؛ فإذا كانت مصرية ركبت "البوكسَ"، وإلا قيل لها: مرحبًا بك في مصر؟!

وطالما أن الأمر وصل إلى هذه الحالة مِن الهزل؛ فدعنا نتساءل: ماذا لو ضبطت مصرية تسير بالنقاب مع ضيفة غير مصرية: هل سيغلب جانب الحظر أم جانب الإباحة؟!

كل هذه الأسئلة تجعلك تشعر بما شعر به أحد الإعلاميين في حواره مع إحدى النائبات المتبنيات للقانون فسألها عن الآليات متسائلًا: هل المطلوب هو مجرد إصدار القانون دون وجود حتى آلية لتطبيقه؟!

أتصور أن هذه هي الحالة؛ هناك مَن يريد أن يقول للمنتقبات: (الدولة) لا تريدكن، وأنها بالتالي أصدرت قانونًا يتعقبكن! وهناك مَن يأخذ الرسالة ويطورها ويعيد إرسالها: (الدولة لا تريد النقاب؛ لأنه مِن الإسلام، وهي لا تريد الإسلام!).

فالأولون: يريدون أن يفرضوا على المصريين -رغمًا عنهم!- ثقافة وافدة، وأعرافًا دخيلة، ويريدون الاحتماء بالدولة حتى وإن كان بعضهم قد وقف يلقي المولوتوف على مؤسساتها يومًا ما! أو على الأقل لا يهمه استقرار الدولة وتركيزها في التنمية بدلًا مِن استنزاف ميزانية جديدة لشرطة مكافحة "النقاب"!

والآخرون يصوِّر لهم الشيطان: أن الحل الأمثل أن يهدموا الدولة ثم يعيدون بناءها على أسسٍ سليمةٍ -بزعمهم!-، بينما يحركهم في الواقع طلب الثأر وشهوة الانتقام!

ويبقى الأمل دائمًا معقودًا أن يحفظ الله مصر، وأن يهيئ لأهلها مِن أمرهم رشدًا، وأن يهديهم جميعًا إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com