الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

تأملات في حجة الوداع (21)

فإن مِن أخطر العقائد التي تُخالِف عقيدة الرسل جميعًا هذه العقيدة الفاسدة مِن أن الله في كل مكان

تأملات في حجة الوداع (21)
ياسر برهامي
الخميس ١٣ ديسمبر ٢٠١٨ - ١٧:٢٨ م
935

تأملات في حجة الوداع (21)

عُلُوُّ الله على خَلْقِه

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبته بعرفة في حجة الوداع: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي؛ فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم)، في أكبر مَجمعٍ من البشر شهد النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيهم كافة أنواع الناس -مِن العالِم والعامِّي، والأعرابي والمَدَنِيِّ، والعَرَبي والرُّومِي والحَبَشي والفَارِسي- رَفَع النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إصبعه السبابة إلى السماء ونكتها إلى الناس مخاطِبًا ربَّه: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ)؛ ليدلنا دلالة قاطعة على عقيدة أهل الإسلام التي جاء بها كل الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- مِن إثبات عُلُوِّ الله على خَلْقِه، وإثبات فَوْقِيَّتِه على العَالَم؛ فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رفع سبابته إلى السماء ليستشهد ربه الذي في السماء على الناس الذين هم في الأرض، كما يفهم هذه الإشارة كل عاقل.

وقد عَلِم فرعون أن موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يقول إن إلهه في السماء فقال: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ . أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) (غافر:36-37)، وقال موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) (الإسراء:102).

وإشارة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع في هذا الجمع الغفير تدل على أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يتحاشى في جموع الناس الإشارة المبينة عن عُلُوِّ الله على عَرْشِه فوق جميع خَلْقِه؛ بخلاف ما يَدَّعيه أهلُ البِدَع المُنْكِرون لذلك، القائلون: إن اعتقاد أن الله في السماء كُفْرٌ وتَجسيمٌ وتشبيهٌ -تعالى الله عن قولهم!-.

وقد كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسأل الناس صراحةً: أين الله؟ كما في صحيح مُسْلِم من حديث مُعَاوِيَة بن الحكم السلمي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ، تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟"، قَالَ: (ائْتِنِي بِهَا) فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ؟) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: (أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)؛ فلو كانت إجابة هذا السؤال كُفْرًا -كما يَزعمون!-؛ فكيف يُوقِع رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجاريةَ في الحَرَج؟! وكيف لا يُبين لنا -ولو مَرَّةً وَاحِدَة- أنه إنما قَبِل منها هذه الإجابة لِضَعْفِ عَقْلِها وقِلَّة عِلْمِها؟! ونحن نتعجب؛ كيف لِمُسْلِمٍ أن يقول هذا الكلام عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النذير المبين في أمرٍ اعتقاديٍ يتعلق بالله وصفاته إنما أَرسله رَبُّه ليبينه للناس، فلا يبيِّن طيلة بعثته لا في الكتاب ولا في السُنَّة بُطلان ما صَرَّح به ظاهرُ الكتابِ ونَطَقَت به السُنَّة مِن فَوْقِيَّة الله -تعالى- وعُلُوِّه؟!

قال الله -تعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى:1)، وقال: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) (الرعد:9)، وقال -تعالى-: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ . أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) (الملك:16-17)، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاء؟!) (متفق عليه)، وقال -سبحانه-: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (النحل:50)، وقال -تعالى-: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5)، وجاءت في سبعة مواضع مِن القرآن العظيم.

قال البُخَارِيُّ في صحيحه: "وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (اسْتَوَى): عَلَا عَلَى الْعَرْشِ"، ولم يَقُل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا مَرَّةً واحدة ولا يومًا مِن الأيام أنها ليستْ على ظاهرها -بمعنى العُلُوّ-، أو أنها بمعنى الاستيلاء، أو لا تعتقدوا الفوقية؛ لأن فيها إثبات الجهة -وهو كُفْرٌ-، أو لأن الآيات ظاهرها التحيز -وهو كُفْرٌ- أو التجسيم -وهو كُفْرٌ-؛ بل فَسَّرَها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأثبت الفوقية فقال: (وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) (حديث حسن، أخرجه ابن خزيمة والبيهقي، وصححه الألباني موقوفًا على ابن مسعود)، وقال في الحديث الذي رواه مُسْلِمٌ في صحيحه: (اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ... ).

وهذه المسألة -وهي عُلُوُّ اللهِ على خَلْقِه وأنه بَائِنٌ مِن خَلْقِه كما أجمع عليها السلف- عليها أكثر مِن أَلف دليل من الكِتاب والسُنَّة -دون مُبَالَغة-، وقد استقصى كثير منها ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- في "الصواعق المُرْسَلة"، والذهبي -رَحِمَهُ اللهُ- في "العُلُوّ".

ولَم تَزَل فطرة الناس على ذلك، ورفض عقيدة الحُلُول أو الاتحاد، بل قد كَفَّر اللهُ النصارى لما قالو بالحلول أو الاتحاد، على اختلاف مَذَاهِبِهم في المَسِيح -عَلَيْهِ السَّلَامُ- والرُّوح القدس جبريل -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فكيف بمن يقول بالحلول في جميع المخلوقات أو الاتحاد بها؟!

فإن مِن أخطر العقائد التي تُخالِف عقيدة الرسل جميعًا هذه العقيدة الفاسدة مِن أن الله في كل مكان، رغم أن كثيرًا مِن الناس يُطلِقون العبارةَ ولا يَقصِدون حقيقة المعنى؛ إلا أن كثيرًا من القائلين بالحلول أو الاتحاد يُعدون من أئمة التصوف الفلسفي، والذي لا يزال الجدلُ دائرًا حولَه وحولَ عِبَارات المُنَظِّرين له، وتأويلها بما لو صَحَّ تأويلُها لَصَحَّ التأويل لأنواع الكفار كلهم!

وهذا التصوف الفلسفي يشجعه أعداء الإسلام، ويسعون إلى نشر تراثه في العالَم: "كجلال الدين الرُّومي، وابن عربي، وابن الفارِض"، ولو تَأَمَّلَ مُتَأَمِّلٌ كلماتهم الفظيعة؛ لوجد أنها لا يقبلها عقلٌ سليم، فضلًا عن أن يقبلها مُسلمٌ أو مُؤمِن!

فاسمع إلى ما يقوله ابن الفارِض في التائية -مُتَكَلِّمًا عن الذات الإلهية:

لـهـا صـــلـواتي بـالـمقـامِ أُقـيـمـهـا                 وأشــهـــدُ فـيــهـا أنَّـهـا لي صــلَّـتِ

كـــلانا مــُصَـلٍّ واحـدٌ ســاجــدٌ إلـى                 حـقيـقـتـهِ بالجـمعِ فـي كـلِّ سـجــدةِ

وما كان لي صلَّى سوايَ، ولم تكنْ                 صـلاتي لغـيـري في أدا كـلِّ ركـعـةِ

ويقول:

ومـا زلـتُ إيَّاهـا وإيَّايَ لم تزلْ          ولا فرقَ، بل ذاتي لِذاتي أحبَّتِ

إلـيَّ رسولاً كـنـت مِنِّي مُرسَلًا           وذاتـي بآيـاتي عـليَّ اسـتـدلّـتِ

ويقول في بيان وحدة الأديان والتسوية بين عابد الوثن والمُوَحِّد -وهو الدين العَالَمِيِّ الجديد الذي يُبَشِّر به الغرب-:

وإنْ خــرَّ لـلأحـجـارِ فـي البُدِّ عـاكـفٌ              فــلا وَجْــهَ لــلإنــكـارِ بــالـعــصـبــيَّـةِ

وإنْ عـبـدَ النَّارَ المجـوسُ وما انطفتْ              كـمـا جـاءَ في الأخـبارِ في ألفِ حِـجّةِ

فما قصدوا غـيري وإنْ كانَ قصدُهـمْ               سِــوايَ وإنْ لـمْ يُـظهِـروا عَـقـدَ نـيـَّـةِ

ويقول:

فـبي مجـلسُ الأذكارِ سمعُ مُطالـعٍ                  وفـي حـانةِ الخـمّارِ عينُ طـليـعةِ

وما عقدَ الزِّنَّار حُكمًا سـوى يـدي                   وإنْ حُلَّ بالإقرارِ بـي فـهيَ حَـلَّتِ

وإنْ نارَ بالتَّنزيلِ مِحرابُ مـسجــدٍ                  فـما بارَ بالإنـجيـلِ هـيـكـلُ بـيـعـةِ

ومِن ذلك قول الحلاج: "لا إله إلا الله، ما في الجُبَّة إلا الله!". يعنى نفسه -والعياذ بالله!-.

وقول أبي اليزيد البسطامي: "سُبْحَانِي سُبْحَانِي، ما أعظم شأني!"، وغير ذلك مِن فضائح القائلين بوحدة الوجود أو بالحلول، وهذه حقيقة قول مَن يقول: إن الله في كل مكان!

ورغم أن الأشاعرة يُنكِرون القولَ بأن الله في كل مكان، بل ينفون عن الله الزمان والمكان -ولا شك أن هذا أهون مِن القول بالحلول-، لكن لما حصل التزاوج مع التصوف الفلسفي تَوَلَّدَت أقوال الحلول والاتحاد لبعض المُنْتَسِبين إلى المذهب، ومع قِلَّة العلم وصعوبة الألفاظ والعبارات اختلط الحَابِل بالنَّابِل، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وكل هذه العقائد الفاسدة يُبْطِلها اعتقاد أهل الإسلام بأن الله فَوقَ عرشه، بَائِنٌ مِن خَلْقِه، وإن كان يجب أن يُصان هذا القول المبين عن الظنون الفاسدة والأفكار الخاطئة، التي حين تَصَوَّرَ البعضُ أنها ظاهر النصوص اتَّهَموا مَن يقولُ بالحقِّ بأنه حَشوي مُجَسِّم مُشَبِّه!

هذه الظنون الكاذبة مثل مَن يَظن أن السماء تَحْوِيه سبحانه! كيف وهو قَد وَسِع كُرْسِيُّه السماوات والأرض، والكُرْسِي إلى جانب العرش كحلقةٍ في فَلَاةٍ، والله -عَزَّ وَجَلَّ- فوق عرشه، وهو أكبر مِن خَلْقِه جميعًا؛ الله أكبر.

وإنما معنى أن الله في السماء: أنه في العُلُوِّ، أو فوق السماء المخلوقة؛ لأن العرش سَقْفٌ لجميع المخلوقات، فهو سماءٌ لها.

وكذا مِن الظنون الكاذبة أن السماء تُقِلُّه أو تُظِلُّه؛ بل العَرْش مَحْمُولٌ بقُدرة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وملائكةُ اللهِ المخلوقون يحملون العرشَ بإقدار الله لهم على ذلك، فهو خالق أفعال العباد وخالق قدرتهم وإرادتهم -ومنهم ملائكته حَمَلَة عَرْشِه-.

هذه المسألة نقطة فاصلة بين عقيدة السلف وبين الفِرَق المُخَالِفة لأهل السُنَّة، وقد تكلم السلفُ كثيرًا عن هذه المسألة -مسألة العُلُوِّ والاستواء-، وكَثُرَ الكلامُ فيها عبْر الزمان؛ ولا أَسْلَمَ ولا أعلمَ ولا أحكمَ مِن طريقة إثبات النصوص دالةً على المعاني اللائقة بجَلَالِ اللهِ تعالى وعَظَمَتِه، النافية للتمثيل والتشبيه، والتحريف والتعطيل والتكييف؛ فالله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة