الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الثبات (4) (موعظة الأسبوع)

أسباب التراجع عن الثبات (3)

الثبات (4) (موعظة الأسبوع)
سعيد محمود
الأربعاء ٢٠ فبراير ٢٠١٩ - ١٢:٠٩ م
764

الثبات (4) (موعظة الأسبوع)

أسباب التراجع عن الثبات (3)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- تكرير التنبيه على أهمية الثبات، ومشقته على النفوس في هذا الزمان.

- إشارة إلى ما سبق مِن الانتهاء مِن الأسباب الداخلية: (قلبية - نفسية - سلوكية) للتراجع عن الثبات، والشروع في بيان الأسباب الخارجية المؤثِّرة على الثبات، وهي كثيرة نقف على أبرزها، ومِن خلالها التنبيه على البقية.

الأسباب الخارجية المؤثرة على الثبات:

1- التعرض للاضطهاد والأذى.

2- فتنة الفقر والحاجة وضغط الظروف الاقتصادية.

3- واقع المسلمين المرير مِن الضعف والاختلاف والانحراف.

4- ضغط الأهل والأحباب لترك الطريق اتقاء للأذى.

5- الشعور بالغربة بين عامة الناس المؤدي إلى التنازل في السلوك والسمت ثم المنهج.

6- وسائل الإعلام الفاسدة المحرِّضة على كراهية الدين والتدين والمتدينين.

7- انتشار المعاصي وشيوع الفساد الأخلاقي في المجتمع.

تنبيه:

سنتعرض للسببين الأوليين بشيءٍ مِن التفصيل، ونكتفي بذكر الأسباب الأخرى كعناوين؛ لورودها في طيات ما سبق، ولاسيما وأننا سنتعرض لها أثناء تناول عوامل الثبات -إن شاء الله-.

أولًا: التعرض للاضطهاد والأذى:

هذا مِن أكثر الأسباب المؤدية إلى التراجع عن الثبات؛ لأن النفوس تحب الراحة والسعة، وتكره الضيق والتعب، وهو أكثرها فتكًا بالنفوس التي لم تذق حلاوة الإيمان، ولم يهذبها منهج القرآن، وسبيل الأنبياء وأولياء الرحمن، ولم تعرف معالم الطريق.

- أول المعالم: (لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ):

ففي حديث بدء الوحي: "قال ورقة: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ"، فَقَالَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ... ) (متفق عليه).

ويوم بيعة العقبة: قال ابن إسحاق: "إنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الأَنْصَارِيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، هَلْ تَدْرُونَ عَلامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَ عَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نَهَكَتْ أَمْوَالَكُمْ مُصِيبَةٌ، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلَى أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الآنَ فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ عَلَى نُهْكَةِ الأَمْوَالِ وَقَتْلِ الأَشْرَافِ فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالُوا: فَإِنَّا وَاللَّهِ نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الأَمْوَالِ وَقَتْلِ الأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ"، قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعُوهُ" (سيرة ابن هشام، 1/ 446).

- ثاني المعالم: (صَبْرًا... فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ):

المرحلة المكية حيث الاضطهاد والتعذيب والتشريد لكل مَن أسلم، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم: (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، وعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).

- ثالث المعالم (التربية والتصفية):

قال الله -تعالى-: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران:179)، وقال: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2-3)، وقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155).

- رابع المعالم (الابتلاء على قدر الدين):

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَء، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ، فَلَهُ السُّخْطُ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

- تدابير في مواجهة الاضطهاد والأذى: (الصبر - كثرة التعبد والتنفل - الدعاء - التوكل - الاحتساب - الثقة في وعد الله)، قال -تعالى- لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان:17)، وقال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:97-99)، وقال عن نوح -عليه السلام-: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ  . فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ . فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ . وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ . تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ . وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:9-15)، وقال عن موسى -عليه السلام-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128)، وقال عن المضطهدين في الدنيا اذا دخلوا الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر:34-35).

ثانيًا: الفقر والحاجة والظروف الاقتصادية:

وهو مِن الأسباب والمؤثرات الشديدة على النفوس؛ بسبب السعي في المعايش الذي معه يتراجع الكثير ويقصِّر في الطاعات.

- نعم... الفقر والحاجة فتنة شديدة على النفوس، حتى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر الاستعاذة منه، فكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني)، ويُؤثر عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "لو كان الفقر رجلًا لقتلته!".

- ولكنه امتحان للمؤمنين لينالوا ثواب الآخرة: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِه، مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاثَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ، فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ لا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَقَالَ: (أَوَفِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (متفق عليه).

- بل هي سنة عامة أتباع الرسل المتمسكين بطريقته: عن عبد الله بن مغفل قال: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ. فَقَالَ لَهُ: (انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ)، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: (إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا، فَإِنَّ الفَقْر أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنَ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ودخلت حفصة بنت عمر على عمر بن الخطاب يومًا، وقد أشفقت عليه مِن خشونة عيشه، فقالت: "يا أبتاه، قد فتح الله لك الفتوح، ومصر لك الأمصار، فهلا وسعت على نفسك شيئًا مِن عيشك هذا الخشن؟ فقال: والله، لا أخاصمك إلا إلى نفسك، أنسيت عيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أنسيت عيش أبي بكر؟ فوالله، إني لأرجو بعيشي هذا الخشن أن ألحق بهما في عيشهما الرخي، فبكت حفصة".

- لا تحزن... فعظيم الأجر مع الفقر والطاعة والصبر: (الفقراء أكثر أتباع الأنبياء - أحب المؤمنين إلى الله ورسوله - أول مَن يرد الحوض - أول مَن يجوز الصراط - أول مَن يدخل الجنة - أكثر أهل الجنة).

- آداب تهون عليك فتنة الفقر والحاجة: (حسن التوكل على الله - الرضا بما قسم الله - الاقتصاد في المعايش - النظر إلى مَن هو دونك مِن الفقراء الصالحين - الدعاء والتضرع - التصبر بانتظار الجنة) (انظر سلسلة مواعظ: رسائل المواساة الى أهل الفقر والمعاناة).

- احرص على أن تكون بين المقتصدين والسابقين بالخيرات: (صلاة الفرض في جماعة لا سيما صلاة الفجر - صيام الاثنين والخميس - ورد قرآني يومي - تحصيل العلم بالوسائل المتاحة)، قال -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن:16)، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة:286).

وسيأتي معنا الحديث حول عوامل الثبات على الدين مِن المرة القادمة -إن شاء الله-، فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة