الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

التفسير الدستوري لمبادئ الشريعة (2)

حصرت المحكمة الدستورية العليا مبادئ الشريعة الإسلامية التي أوجب الدستور مراعاتها في الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها

التفسير الدستوري لمبادئ الشريعة (2)
طلعت مرزوق
الأحد ٢٤ مارس ٢٠١٩ - ١٩:٠٤ م
1023

التفسير الدستوري لمبادئ الشريعة (2)

كتبه/ طلعت مرزوق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

القيود التي وضعتها المحكمة الدستورية العليا على تطبيق المادة الثانية بعد تعديل مايو 1980م:

التعديل الدستوري الذي تم على نص المادة الثانية، بتاريخ: 22 مايو 1980م أتى بقيدٍ على السلطة المُختصة بالتشريع، قوامه إلزام هذه السلطة -وهي بصدد وضع التشريعات- بالالتجاء إلى مبادئ الشريعة؛ لاستمداد الأحكام المُنظمة للمجتمع، مع إلزامه بعدم الالتجاء إلى غيرها، فإذا لم يجد فيها حكمًا صريحًا فإن وسائل استنباط الأحكام مِن المصادر الاجتهادية في الشريعة الإسلامية تُمكنه مِن التوصل إلى الأحكام اللازمة، والتي لا تخالف الأصول والمبادئ العامة للشريعة.

بالرغم مِن ذلك فقد وضعت المحكمة الدستورية العليا قيودًا على تطبيق هذه المادة على النحو الآتي:

أولًا: مِن حيث النطاق الزماني لسريانها:

قالت المحكمة الدستورية العليا في حكمها الصادر بجلسة 4 مايو 1985م في القضية رقم 20 لسنة 1 ق دستورية - 7 لسنة 9 ق عليا: لما كان إلزام المشرع باتخاذ مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع -على ما سلف بيانه- لا ينصرف سوى إلى التشريعات التي تصدر بعد التاريخ الذى فُرِض فيه الإلزام، بحيث إذا انطوى أي منها على ما يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية يكون قد وقع في حومة المخالفة الدستورية، أما التشريعات السابقة على ذلك التاريخ، فلا يتأتى إنفاذ حكم الإلزام المشار إليه بالنسبة لها لصدورها فعلًا مِن قبله، أي في وقتٍ لم يكن القيد المتضمن هذا الإلزام قائمًا واجب الإعمال، ومِن ثَمَّ فإن هذه التشريعات تكون بمنأى عن إعمال هذا القيد، وهو مناط الرقابة الدستورية (يراجع أيضًا: القضية رقم 47 لسنة 4 ق دستورية - جلسة 21 ديسمبر 1985، والقضية رقم 141 لسنة 4 ق دستورية - جلسة 4 إبريل 1987).

تعقيب:

المحكمة الدستورية العليا لم تراعِ هذا القيد الزماني بشأن القوانين السابقة على النصوص الدستورية الواردة بدستور 1971م وتعديلاته، سوى الذي أقرته بخصوص إعمال مبادئ الشريعة الإسلامية في شأن القوانين السابقة على تعديل نص المادة الثانية مِن الدستور في مايو 1980م.

وعلى سبيل المثال: الحكم في القضية رقم 114 لسنة 21 ق دستورية بجلسة 2 يونيو 2001، حيث قضت بعدم دستورية المادة رقم: 48 مِن قانون العقوبات رقم: 58 لسنة 1937 لخروجها على مقتضى نصوص المواد: 41، 65، 66، 67 مِن الدستور، على الرغم مِن كون النصوص الدستورية المُشار إليها لاحقة على النص القانوني المقضي بعدم دستوريته!

وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا:

قال المستشار الدكتور عبد العزيز محمد سالمان، رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا: "إن التفسير الذي قالت به المحكمة لكيفية تطبيق المادة الثانية مِن الدستور، قد ضيَّع على البلاد فرصة الانتقال التدريجي إلى نطاق الشريعة الإسلامية، في ضوء الاعتبارات العملية التي تثيرها القضايا، وتحت إشراف القضاء وبواسطته، وهي طريقة أجدى مِن تشكيل لجان التقنين التي قد تبعد عن الواقع، وتُغرق في البحوث النظرية" (ضوابط وقيود الرقابة الدستورية، ص 259 - دار النهضة العربية - الطبعة الأولى 2011 م).

وقال: "والواقع أن ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية مِن التفرقة بين التشريعات السابقة على صدور الدستور وتعديله، وتلك اللاحقة على الدستور تفرقة غير مستساغة ولا أساس لها" (المصدر السابق، ص 265).

وقال: "وما ذهبت إليه المحكمة يعنى أن هناك نوعين مِن الرقابة القضائية على الدستورية، يختلف كل منهما عن الآخر في المضمون والمفهوم، بل وأن هناك نوعين مِن النصوص يختلفان في القوة والأثر!" (المصدر السابق ص 266، وتقرير هيئة المفوضين في الدعوى رقم 26 لسنة 2 ق دستورية، للسيد المستشار/ عبد الرحمن نصير. ومع كل الأسف؛ فإن المحكمة لم تأخذ بما انتهى إليه هذا التقرير، رغم وجاهة الأسس التي قام عليها).

وقال: "فضلًا عن ذلك، فإن تلك التفرقة المقول بها تؤدي إلى آثار شاذة بالإضافة إلى ما سبق مِن خلقها لنوعين مِن الرقابة القضائية على الدستورية، ونوعين مِن نصوص الدستور ومِن التشريعات، وهي نتيجة شاذة لا يقبلها المنطق ويأباها العقل وتتعارض وهدف تلك الرقابة، فإن مجاراة منطق هذه التفرقة وسندها... تُؤدي إلى إعمال ذات التفرقة بين التشريعات الصادرة في ظل الدستور، والقائمة وقت صدوره، بصدد أي نص دستوري استحدثه دستور 1971م، ولم يكن موجودًا في الدساتير المصرية السابقة، وما أكثر الأحكام الدستورية التي استحدثها الدستور الحالي وخاصة في مجال الحريات والحقوق والواجبات، ومِن ثَمَّ تظل جميع هذه الأصول المستحدثة -بالنسبة لرقابة دستورية القوانين القائمة وقت صدور الدستور- مجرد حبر على ورق، ومجرد نصوص مُعطلة غير ذات أثر، وتستمر هذه القوانين -رغم مخالفتها تلك الأصول- سليمة نافذة وبمنأى عن الحكم بعدم دستوريتها، ويظهر واضحًا شذوذ ما يترتب على التفرقة المُقال بها مِن نتائج (المصدر السابق، ص 267-268).

ثانيًا: مِن حيث النطاق الموضوعي:

حصرت المحكمة الدستورية العليا مبادئ الشريعة الإسلامية التي أوجب الدستور مراعاتها في الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعًا؛ لأنها تمثِّل مِن الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلًا أو تبديلًا، ومِن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعًا لتغير الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها أو الالتواء بها عن معناها.

وتقتصر ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها على مراقبة التقيد بها وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها؛ ذلك أن المادة الثانية مِن الدستور تُقدم على هذه القواعد أحكام الشريعة الإسلامية في أصولها ومبادئها الكلية إذ هي إطارها العام وركائزها الأصيلة التي تفرض متطلباتها دومًا، بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها، وإلا اعتبر ذلك تشهيًّا وإنكارًا لما علم مِن الدين بالضرورة.

ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو هما معًا؛ ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها، وهي بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان؛ لضمان مرونتها وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها تنظيمًا لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعًا ولا يعطل بالتالي حركتهم في الحياة، على أن يكون الاجتهاد دومًا واقعًا في إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها، ملتزمًا ضوابطها الثابتة، متحريًا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها، كافلًا صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه مِن حفاظٍ على: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال (القضية رقم 29 لسنة 11 ق دستورية - جلسة 26 مارس 1994، والقضية رقم 6 لسنة 9 ق دستورية - جلسة 18 مارس 1995، القضية رقم 14 لسنة 21 ق دستورية - جلسة 11 مايو 2003).

تعقيب:

تقدير ما إذا كان الحكم الشرعي قطعي الثبوت والدلالة مِن عدمه، مسألة موضوعية خاصة بالمحكمة الدستورية العليا خاضعة لتقديرها وحدها، دون رقابة عليها مِن أحدٍ.

ومع ذلك نجد أن المحكمة العليا فسَّرت مبادئ الشريعة الإسلامية في القضية رقم 10 لسنة 5 ق دستورية بتاريخ 3 يوليه 1976 بأنها الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة.

ويُستفاد مِن الأحكام السابقة ما يأتي:

- لزوم رجوع المشرع إلى أحكام الشريعة.

- التزامه بالحكم الصريح إن وجِدَ، وبقواعد الاجتهاد في غيره.

- عدم جواز اللجوء لمصدرٍ آخر غير الشريعة.

- وجوب تغيير منظومة القوانين في مصر، لتكون في إطار القرآن والسُّنة، وأحكام المجتهدين مِن الأئمة والعلماء.

- وتلاحظ أن: قول المحكمة: "ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو هما معًا؛ ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها": داخل أيضًا في المبادئ، ولكنه خارج عن القطعيات؛ بيد أن قطعيات الشريعة لا تقتصر على قطعي الثبوت والدلالة فقط، بل تشمل أمورًا أخرى، منها: الإجماع، وقياس الأولى، وأحاديث الآحاد المتلقاة بالقبول.

فيُستفاد مِن هذا الحكم: امتناع الاجتهاد في قطعي الثبوت والدلالة، مع بيان قواعد الاجتهاد في غيره.

- المحكمة العليا فسَّرت مبادئ الشريعة الإسلامية بأنها الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة.

المادة رقم: 219 مِن دستور 2012م:

نصَّت المادة رقم: 219 مِن دستور 2012 على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المُعتبرة في مذاهب أهل السُنة والجماعة".

وتُعتبر هذه المادة مُفسِرة لمبادئ الشريعة الإسلامية الواردة بالمادة الثانية.

وكانت تهدف للتحرر مِن القيد الثاني الذي أعملته المحكمة الدستورية العليا بشأن النصوص القانونية المخالفة للأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها معًا.

ويبدو أن سبب اعتماد المحكمة الدستورية العليا ذات التفسير السابق لصدور دستور 2012م في القضية رقم 4 لسنة 22 ق دستورية جلسة 2 يونيو 2013 هو أن المادة 219 لم تتعرض للقيد الأول: "النطاق الزماني لسريان تعديل المادة"، خاصة مع وجود المادة 222، والتي نصت على أن "كل ما قررته القوانين واللوائح مِن أحكام قبل صدور الدستور يبقى نافذًا، ولا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا وفقًا للقواعد والإجراءات المقررة في الدستور" (القضية رقم 4 لسنة 22 ق دستورية جلسة 2 يونيو 2013).

بينما لم تذكر سببًا لذلك في القضية رقم 145 لسنة 27 ق دستورية، جلسة 12 مايو 2013م.

ويعزو البعض هذا إلى أن دستور 2012 لم يأتِ بجديدٍ مِن الناحية الموضوعية، وأن ما ورد في المواد: 2، 4، 2019 منه يتصل بالجانب الإجرائي، ومِن ثَمَّ يستمر قضاء المحكمة الدستورية العليا بضرورة التزام سلطة التشريع بالمبادئ والأحكام القطعية ثبوتًا ودلالةً باعتبارها مِن المبادئ العامة للقانون، بينما غيرها لا يُعد مصدرًا رسميًّا للقانون، وإنما هي فقط مصدر موضوعي للتشريع، خاصة وأن النص مُوجه للمشرِع، لا إلى الكافة، ولا إلى القضاء (يراجع الشريعة الإسلامية ومدى التزام سلطة التشريع باتباع مبادئها على ضوء نصوص 2012م - الشريعة الإسلامية مصدر رسمي للقانون أم مصدر موضوعي للتشريع؟ قراءة في نص المادة الثانية مِن الدستور، للدكتور سامي جمال الدين).

مع العلم بأن فريقًا مِن فقهاء القانون، وعلى رأسهم: الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولي -رحمه الله تعالى- يرون أن مبادئ الشريعة الإسلامية تُمثل نوعين مِن المصادر، فهي تُعد أولًا مصدرًا موضوعيًّا؛ وخاصة مصدرًا تاريخيًّا.

وتُعد ثانيًا مصدرًا رسميًّا -بداهة- حيث إن النص عليها في الدستور كمصدرٍ للتشريع قد أسبغ على مبادئها - أي: الشريعة- صفة الإلزام.

ديباجة دستور 2014م:

نصت ديباجة دستور 2014م على أن: "نكتب دستورًا يؤكِّد أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وأن المرجع في تفسيرها هو ما تضمنه مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا في ذلك الشأن".

كما نصت المادة 227 على أن "يُشكل الدستور بديباجته وجميع نصوصه نسيجًا مترابطًا، وكلًّا لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدةٍ عضويةٍ متماسكةٍ".

ولم تتعرض المحكمة الدستورية العليا لهذين النصين في أحكامها حتى كتابة هذه الكلمات فيما أعلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً