الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

عرفات بين العتق والمباهاة ونزول الرحمات

في مشهد عجيب ومنظر بديع، ويوم مشهود، ووقفة عظيمة، وسعي حثيث، يقف الحجيج على صعيد عرفات سواسية

عرفات بين العتق والمباهاة ونزول الرحمات
إبراهيم جاد
السبت ١٠ أغسطس ٢٠١٩ - ١٤:٤٣ م
720

عرفات بين العتق والمباهاة ونزول الرحمات

كتبه/ إبراهيم جاد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) (رواه مسلم).

وقال النووي -رحمه الله-: "إن الله -عزَّ وجل- يباهي بكم الملائكة: معناه يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم، ويثني عليكم عندهم، وأصل البهاء: الحسن والجمال، وفلان يباهي بماله، أي: يفخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم" (شرح النووي على مسلم).

في مشهد عجيب ومنظر بديع، ويوم مشهود، ووقفة عظيمة، وسعي حثيث، يقف الحجيج على صعيد عرفات سواسية؛ كبيرهم وصغيرهم، وفقيرهم وغنيهم، وعربهم وعجمهم، يعلو وجوههم الأمل في الله -جل وعلا-، وطلب المغفرة والصفح، والرحمة والعتق، أصواتهم بُحت من التلبية، وعيونهم جفت من البكاء، وأقدامهم تورمت مِن طول وقوفهم، وأيديهم مرفوعة فوق رؤوسهم، وقلوبهم خائفة محترقة من الخطايا، وموقدة بوقود الرجاء في الله والحب له -سبحانه-، وسالكة درب الخوف والذل، والخضوع والاستسلام للملك الذي يملك القلوب قبل النواصي، والأرواح قبل الأبدان.

جاءوا وسلاحهم الأكبر البكاء، وبغيتهم أن تنالهم رحمات ربهم.

جاءوا منكسرين متضرعين متذللين لله -تعالى-.

جاءوا وقد جمعوا حاجاتهم لربهم في هذا اليوم.

 ‏قال الأوزاعي -رحمه الله-: "أدركتُ أقوامًا كانوا يخبئون الحاجات ليوم عرفة ليسألوا الله بها".

جاءوا متحملين كل الصعاب مِن أجله، فوقفوا على عرفة وتوحيده يملأ حناجرهم، والتكبير ينطلق مِن أفواههم، والتحميد يغطي سماءهم، أرهقتهم ذنوبهم وأحرقتهم معاصيهم، وأهلكتهم غفلاتهم، وجاءوا ونفوسهم راضية مطمئنة، وأرواحهم راجية آملة أن يغفر لهم.

جاءوا شعثا غبرًا، مناهم المغفرة، وطريقهم التوبة، تركوا كل ما يملكون واستغنوا عما يكنزون، وقدموا كل ما يدخرون قربة لربهم، مستحضرين حديث نبيهم -صلى الله عليه وسلم-: (فإذا وقَفَ بِعرفةَ، فإنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يَنْزِلُ إلى السَّماءِ الدنيا فيقولُ: انظُروا إلى عِبادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي غَفَرْتُ لهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وإن كانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّماءِ، ورَمْلِ عَالِجٍ) (رواه ابن حبان، وقال الألباني: حسن لغيره)، ويتمنون على الله ما قرأوه من آثار سلفهم الصالح -رضوان الله عليهم-.

فقد رُوي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: "أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا؟ -يعني: سدس درهم- أكان يردهم؟ قالوا: لا. قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق".

وتعرض على قلوبهم وأمام أعينهم مشاهد الصالحين مِن أسلافهم؛ فتطمئنهم وتزيد مِن طمعهم في كرم ربهم -جل وعلا-، قال ابن المبارك -رحمه الله-: "جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه، وعيناه تذرفان، فقلتُ له: مَن أسوأ هذا الجمع حالًا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له!".

فما أعظم الرجاء والأمل في الله في هذا اليوم!

ما أرجى لقلوب المؤمنين أن يشملهم الله برحمته من هذا اليوم!

ما أكثر دلال المؤمنين على ربهم في هذا اليوم أن يكتب لهم العتق من النيران!

فيا عباد الله، بأمر الله -تعالى- هنيئًا لمَن جاء إلى عرفات صادقًا مخلصًا، تائبًا مخبتًا، منيبًا لله رب العالمين، فقد اصطفاه الله واختاره لهذا اليوم المشهود.

فاللهم إنك تعلم أن لك عبادًا حبسهم العذر وحُرموا مِن شهود هذا اليوم، ولا حول لهم ولا قوة إلا بك، فاللهم ارزقنا وإياهم وأهل عرفة، المغفرة والعتق من النيران، وتقبل منا ومنهم صالح الأعمال، واجمعنا وإياهم في أعالي الجنان، ووالدينا وأهلنا وذرياتنا، وجميع المسلمين. اللهم أمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة