الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مقاصد المكلفين -4

لأشـْكُرنَّـكَ مـَعْـرُوفـًا هَـمَمْتَ بـِه إنَّ اهْتِمَامَكَ بِالْمَعَروفِ مَعْروف

مقاصد المكلفين -4
زين العابدين كامل
الاثنين ٠٩ سبتمبر ٢٠١٩ - ١٧:٣٩ م
656

مقاصد المكلفين -4

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلقد سلطنا الضوء في المقال السابق على مسألة تأثير النية في العمل، وأن العبد يبلغ بنيته ما لم يبلغ بعمله، ونريد أن نستكمل في هذا المقال الحديث حول نفس المعنى؛ وذلك نظرًا لأهميته، وعلينا أن نتأمل الفرق والتباين بين النيّة التي نريد بها أعمال النّاس في الدنيا ولا نستطيع تحقيقها، فهذه في الغالب لا يعترف بها جل الناس تقريبًا، ولا يجزون عليها، فالناس لا يعترفون إلاّ بما تحقق في واقع الأمر، ولا يعترف بحسن المقصد مع العجز عن العمل إلا النزر اليسير من الناس، وهؤلاء هم أصحاب النفوس الصافية والمعادن النفيسة، كما قال الشاعر:

لأشـْكُرنَّـكَ مـَعْـرُوفـًا هَـمَمْتَ بـِه         إنَّ اهْتِمَامَكَ بِالْمَعَروفِ مَعْروف

أما النيّة التي نريد بها العمل الصالح الذي فرضه الله علينا ابتغاء رضوان الله، ثم نعجز بعد ذلك عن فعل ما أردنا، فالنية هنا قيمة كبيرة عند الله، بل هي محلّ نظر الله -سبحانه- كما قال -تعالى-: (لَنْ يَنَالَ اللهَ لَحُوُمها وَلاَ دِمَاؤُها، وَلَكنْ يَنَالُهُ التقْوَى منْكُمْ) (الحج:37)، فالله ينظر إلى حقيقة العمل الذي في القلب لا إلى صورته، والأدلة على هذا المعنى وثبوته متواترة، فلقد تُوفي أحد الصحابة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان قد تجهَّز للخروج للجهاد وقتال الكفار، فقالت ابنته متحسِّرة: إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا قَدْ كُنْتَ قَضَيْتَ جِهَازَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

وتخلف رجال من المؤمنين عن غزوة تبوك، وكانوا يتحرَّقون شوقًا إلى صحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكانوا يتمنون أن ينالوا شرف الخروج للجهاد مع رسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن حبسهم العذر، بعضهم لم يكن عنده الزاد والراحلة، ولم يجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يحملهم عليه، وبعضهم لعلَّه كان مريضاً، ومنهم مَن تخلف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليَليَ شئون المدينة، ويقوم على حمايتها، فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الذين كانوا معه في تلك الغزوة أن أولئك المتخلفين المعذورين يشاركونهم في الأجر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ) (رواه البخاري).

وقد أشار القرآن العظيم إلى وقوع المساواة بين أصحاب الأعذار الذين منعهم العذر وبين المجاهدين، فقال -تعالى-: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدونَ فِي سبِيل الله بأَمْوالِهمْ وَأنفُسهِمْ) (النساء:95)، وقد نزلت هذه الآية كما يقول ابن كثير أولًا بدون (َأُولي الضَّرَرِ)، وكان ابن أمّ مكتوم قريبًا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: أَنا ضرير، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت: (غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ) (تفسير ابن كثير، 2/ 366)، فالآية كما يقول ابن كثير، ويرويه عن ابن عباس: تدلُّ على أنَّ (َأُولي الضَّرَرِ) يساوون المجاهدين ما دام الضَّرر قاهرًا، والنية مستقرة في القلوب، فإذا صدقت النيّات واستقر الإخلاص في القلب الذي هو مستودع الأسرار، ومحل نظر الباري -جل وعلا- ثم عجز العبد عن تنفيذ ما عزم على فعله ابتغاء مرضاة الله، فإن صاحب النية يعدّ في تعداد العاملين لهذا العمل.

وما أحسن قول القائل:

يَا رَاحـليـِـنَ إلى الْبـَيْـتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ      سِرْتُمْ جُسوماً وَسِرنَا نَحْنُ أَرْواحا

إِنـَّا أَقـَـمْـنـَا عَـلـَى عُـذْر وَعـَنْ قَدَرٍ      وَمَـنْ أَقَامَ عَــلَى عُــذرٍ فـَقـَـدْ رَاحـَا

وقد ذكرنا في المقال السابق الحديث الذي أخبر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الدنيا لأربعة نفر، وفيه: أن الذي لا يملك المال ثم يتمنى أن يكون كفلان الغني كي ينفق ويتصدّق مثله فإنّه يستوي مع الغني المنفق المتصدق في الأجر والثواب، ويكونا في الأجر سواء، وجاء فيه أيضًا أن الفقير الذي يريد مثل مال الغني الجائر الظالم الذي ينفق المال في الذنوب والمعاصي أنهما في الوزر سواء.

ومِن ثَمَّ  فإن العبد الذي ينوي المداومة على عبادة معينة مِن العبادات: كصلاة أو صيام أو صدقة، أو غير ذلك من أنواع العبادات، ثم تفوته العبادة لعذر شرعي: كالمرض، ونحو ذلك، فإنه يُكتب له ما كان يعمله، فعن عائشة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) (رواه البخاري).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com