الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)

كانوا أول النهار سحَرة، وآخر النهار شهداء بَرَرَة،

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)
ياسر برهامي
الجمعة ١٣ سبتمبر ٢٠١٩ - ١٨:٣١ م
908

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

لقد أمَرَنا الله -عَزَّ وَجَلَّ- بتذَكُّر أيام الله التي ظهر فيها للخلق جميعًا أن ما تعودوا عليه من ليل ونهار، وشمس وقمر، واستقرار أحوال وملك بعضهم، وعجز آخرين واستضعافهم؛ أن ذلك كله ليس بأيديهم، وأن جريان العادة لا يعني أن الأمور تظل كذلك؛ بل تأتي أيام يظهر فيها ملكوت الله في السموات وفي الأرض؛ يأمر بأوامر فتنقلب موازين الكون، وتتغير عادات الخلق؛ ويملك الضعيف، ويهلك الجبار المتكبر، فتظهر آثار إرادة الله لمَن عقلها، وشهد ملكوت السموات والأرض لمن يكون، وبالتالي يكون مِن الموقنين.

أيام الله -عَزَّ وَجَلَّ- ينبغي أن يتذكرها الإنسان.

كان الطوفان مِن أيام الله، وكان يوم عاشوراء مِن أيام الله، وكان يوم عرفة، ويوم النحر من أيام الله، وهكذا كان يوم فتح مكة من أيام الله، وكان يوم إكمال الإسلام بالوحي المنزل على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم عرفة في حجة الوداع من أيام الله، ويوم فتح الله على المسلمين يوم قتل مسيلمة الكذاب، ويوم القادسية، ويوم اليرموك، ويوم فتح بيت المقدس، ويوم إعادة فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين، كانت من أيام الله -تعالى-.

إن هذه الأيام التي تغيَّر فيها التاريخ، وتغيرت فيها العوائد، دائمًا يشهد مِن خلالها المؤمن أمر الله سُبْحَانَهُ وإرادته، كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قصة موسى -عليه السلام- وهلاك فرعون -قبل أن يولد موسى-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ  . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5-6)؛ الأمور ظَلَّت مستقرة لسنواتٍ وعقود -بل والبعض يقول لقرونٍ-، ولا شك أن دولة  الفراعنة مرت بقرون مِن الزمان وإن تتابع الملوك عليها، قرون وهم يشيدون فيها المباني والمعابد والأهرامات، يشيدون فيها ويرسمون على جدرانها تاريخ ملكهم؛ فتأمل اليوم.. ماذا يملك الفراعنة؟َ صاروا محبوسين في توابيت، ينظر الناس إلى أجسادهم المحنطة وهم لا يملكون لأنفسهم شيئًا -لا نفعًا ولا ضرًّا-، صاروا مزاراتٍ سياحية بعد أن كانوا يُسَخِّرُون البَشَر لإرادتهم ويحشرونهم في غايتهم ويبنون الصروح بلا هدف ولا غاية إلا صرف الناس عن حقائق الإيمان التي جاء بها الرسل الكرام -صلوات الله عليهم أجمعين-، ثم لنعلم أن هذا الأمر أيضًا ينتظر مَن بعدهم ممَن ترونهم ملوك الأرض، وممن ترونهم أغنياءَها وكبراءَها، الذين يَأمرون فيُطاعون، ويسفكون الدماء، ويذبحون الأبناء، ويستحيون النساء، ويظلمون الخلق، ومع ذلك  فالله -عَزَّ وَجَلَّ- مِن ورائهم محيط، ويبقى دين الأنبياء دين التوحيد.

أين ذهبت أديان الفراعنة وعجولهم وتماثيلهم التي نحتوها تشهد أنهم كانوا يشركون بالله، لهذه الآلهة  الباطلة، ماذا يُعبد منها اليوم؟ صارت مسارًا لفكر المتفكرين وعبرة المعتبرين، وبقيت عبادة الله وحده -لا شريك له- التي جاء بها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِم وَسَلَّمَ-.

لقد كان يوم عاشوراء مِن أيام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، نَصَر اللهُ فيها موسى وقومَه، وأهلَك فرعون وجندَه، وذُكِر عن ابن عباس أن يوم عاشوراء كان أيضًا يوم الزينة، اليوم الذي ظهرت فيه الحُجَّة قبل ظهور القوة والتمكين، فإن ظهور الحُجَّة مقدمة لظهور التمكين في الأرض بالقوة، كان يوم غرق فرعون قبل أن يغرق ببدنه؛ يوم غُلِب في حجته عندما ألقى موسى عصاه (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ . وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الأعراف:117-120).

رأى جَمعٌ من الخَلق كبيرٌ -قد حُشِروا في هذا اليوم- رأوا نفس الآية، ومع  ذلك اختلفت المواقف اختلافًا عجيبًا، رأى فرعون وهامان وجنودهما عصا موسى تأكل كل الحيات تلقفها بسرعة عجيبة في لحظات معدودة، وكانوا -فيما يُذكر- عشرات الألوف من السحرة، كُلٌّ منهم معه حبله وعصيه، جُمعوا في ميدان واسع وصعيد أفيح وكل منهم يُلقي عصاه وحبله حتى خُيِّل لموسى نفسه مِن سحرهم أنها تسعى، وأوجس في نفسه خيفة موسى أن يقتنع الناس بهذا الباطل، كما يوجس أهل الحق إذا جاءت شبهات وشهوات لأهل الباطل أن ينصرف الناس إليها ويتركوا الحق، ويأتي التثبيت من الله (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى . وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه:68-69)، لما  قال الله له ذلك واجَهَهم قبل أن يُلقي فقال: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:81).

وهكذا يقول كل مؤمن في رد الشبهات المُشَوِّهة للحق والشهوات المُغوِية إلى الباطل يقول: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ)، (وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا) (رواه مسلم)، البيان الذي يُزَيِّن الباطل ويقبح الحق ويشوِّه صورة أهل الحق والإيمان حتى يُقال عنهم أنواع السب، كما قالوا: ساحر مجنون، ساحر كذاب، شاعر مجنون؛ كم شتموا الرسل الكرام واتهموهم بأدوائهم هم، وأمراضهم هم؛ فهم المسرفون الكذابون، وهم السحرة الأفاكون.

قضيةٌ كُلِّيَّة في كل زمان ومكان: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)، لا في الدنيا يصلح، بل يَشقون بفسادهم ويُعذَّبون بأموالهم وأولادهم؛ (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55)، نعوذ بالله من ذلك؛ ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، شقاءٌ عجيبٌ يقاسيه أهل الدنيا في لهثهم وراء شهواتهم وشبهاتهم، ولا يصلح الله عمل المفسدين!

(وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس:82)؛ فبكلمات الله الكونية يأمر الله سماواته وأرضه، ويأمر أرواح عباده وأجسادهم، ويأمر قلوبهم بما شاء -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، كما أمر السماء أن تمطر والأرض أن تنبع بالماء حتى طغى الماء وحمل نوحًا والمؤمنين ومَن شاء في الجارية، (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (الحاقة:12)، وأمَرَ النارَ: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69)، وأَمَر سُبْحَانَهُ البحر: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء:63).

وقال -تعالى-: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ) (الشعراء:64)؛ لولا أن الله طمس على عقل فرعون لما تحرك خطوة حين رأى البحر ينفلق بعدد أسباط بني إسرائيل ويصبح اثنا عشر طريقًا في البحر يَبَسًا بضربة مِن عصا موسى التي عهد منها قبل ذلك الأعاجيب، ولكن مع ذلك  سار!

كيف سار؟! (وَأَزْلَفْنَا)، فِعل الله، الله الذي جعل في عقله أنه ينبغي أن تسير وراءهم، وجعل جبريل -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بطريقة خفية يحث فرسه على التقدم والعميان -جنده وأتباعه- خلفه يسيرون، بسبب التقليد الأعمى الذي تعودوا عليه عبر سنين عمرهم أنهم يسمعون ما قال فرعون، ويطيعون ما قال فرعون، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ . فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ... ) (الزخرف:45-46)؛ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَرَّبَهم إلى وسط البحر: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) (الشعراء:64-65)؛ لم يُفقد منهم شيخٌ ولا صبي ولا امرأة عجوز ولا عاجز مريض، بعد سنين الاضطهاد -والتي لا شك تُورِث أنواع الأمراض والعجز- ومع ذلك  نجوا جميعًا بما يحملون.

إنها أيام الله وأوامره: (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (الشعراء:66)، أمر البحر فالتطم، على فرعون وجنده مرة أخرى.

فكما فَقَد فرعون وجنده الحُجَّة يوم الزينة، يوم أن أَمَر اللهُ قلوبَ السحرة بالإيمان، رأى الناس حُجَّة واحدة واختلفت القلوب اختلافًا بَيِّنًا، عندما أمر الله موسى أن يُلقي عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:118)، في لحظاتٍ ساد الصمت الهائل الرهيب؛ الساحةَ كلها خلت إلا من الثعبان المهيب، أكل في لحظةٍ مئات الألوف من العِصِيِّ والحبال التي كان يبدو أنها ثعابين يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى؛ (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف:116)، وزال ذلك في لحظة، (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وإذا  وجوهٌ صاغرة منكسرة مغلوبة.

(فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) (الأعراف:119)، انظر في هذا الجانب مِن صورة المشهد لترى وجوه فرعون وهامان وكبار القادة، في حيرة عجيبة، وانكسار شديد، وصَغَار في حجتهم؛ فماذا يصنعون؟! وماذا يقولون لهؤلاء الخَلق المجتمعين؟! وهم يبحثون عن الناس؛ لم يبحثوا عن الحق ولم يَطلبوه، (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ).

وتأمل في جانب آخر... السحَرة الذين كانوا في أول النهار يبحثون عن الأجر من فرعون: (قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ . قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (الشعراء:41-42)؛ يَعرضون على موسى أن يُلقي أولًا أو يلقوا هم؛ ليقينهم أنهم منتصِرون! يريدون الأجر.

ولكن سبحان الله!  

تغيرت القلوب في لحظة: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الأعراف:120)، ألقى الله في قلوبهم الإيمان، في تلك اللحظة العجيبة استقر الإيمان في قلوب بني إسرائيل بما أيد الله موسى، وتغيرت قلوب السحرة فصاروا من السحر إلى الإيمان (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف:121-122)، هو مُقَلِّب القلوب يقلبها كيف يشاء، كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام-.

لا يملك أحدٌ منا قلبَه، حتى ثباته على التوحيد إلى أن يلقى الله، وثباته على الطاعة إلى أن يلقى الله، وحبه للإيمان والخير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24)، كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وكان -عليه الصلاة والسلام- يقول: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وكان يقول: (اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) (رواه مسلم).

تأمَّل أن "السامري" قد شهد هذه الآيات، وشهد أثر الرسول -أثر جبريل- يوم هلاك فرعون، فأخذ قبضةً من آثاره، وهو يسير ليدفع فرعون وجنده إلى الهلاك وينجي بني إسرائيل، ومع ذلك آثر عبادة العجل!

كيف تقلبت القلوب؟!

كيف اقتنع بنو إسرائيل -بل كثيرٌ منهم اقتنع فعلًا- بهذا العجل؟! والذي كان بدعوة دعاها هارون للسامري لكي يلقي ما في يده أن يعطيها الله ما يريد فتحول إلى ما كان أشربه من حب عبادة البقر، فصار عجلًا جسدًا له خوار، لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا؛ لا يبيِّن لهم حقًا ولا ينهاهم عن باطل، ولا يصدر منه إلا صوت خوار، كخوار البقر، وإذا بهم يقبلون ما قال السامري: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) (طه:88).

ألا نخشى على قلوبنا؟!

أفلا نتضرع إلى الله أن يثبت قلوبنا وأن يقلبها دائمًا على الحق كما ثبَّت قلوب السحرة على الإيمان بعد التهديد (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)؟!

هنا وَجَد فرعون شيئًا يشغل به الناس فقال: (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الأعراف:123)، فما الذي طلبه موسى -عليه السلام-؟ لم يطلب إلا أن يخرج معه بنو إسرائيل، وأن يؤمن فرعون وقومه ويُتركوا في ملكهم وعيشهم الذي يفتخرون به، فهو يريد أن ينقذ المستضعفين؛ ما أراد أن يخرج فرعون والمصريين من بلادهم... فأين كان هذا المكر -المزعوم!- من موسى -عليه السلام- كما ادعى فرعون الكذاب المفتري؟! وأين كان السحرة قبل أن يجمعهم فرعون حتى ينتصر موسى عليهم؟!

ففرعون يكذب، ويعلم أنه يكذب، وجنوده يعلمون أنه يكذب، وهامان يعلم أنه يكذب، ومع ذلك يُتبع! كما ترون الباطل يُتَّبَع، وكما ترون الإلحاد يُتَّبَع، وكما ترون الشرك واليهودية والنصرانية وعبادة الأوثان تُتَّبَع بعد ظهور الحق الواضح في دين الإسلام، وكما ترون الخرافة تُتَّبَع، وكما ترون عبادة الأموات تُتَّبَع، وكما ترون اللجوء لغير شرع الله يُتَّبَع، وكما ترى موالاة أعداء الله واتباع كيدهم يُتَّبَع. نسأل الله أن يثبتنا على الحق.

(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ , لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ . قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف:123-126).

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- عن السحَرة: كانوا أول النهار سحَرة، وآخر النهار شهداء بَرَرَة، وسبحان الله؛ وَجَد فرعون من يطيعه في تقطيع أيدي السحَرة وأرجلهم، وفي صَلبهم على جذوع النخل!

وانظر حالهم، وتأمَّل والمسامير تخرق أيديهم وأرجلهم على جذوع النخل، وهم يراهم عشرات الألوف من البشر يُقتلون بهذه القتلة الشنيعة ويُعذَّبون بذلك- ودماؤهم تنزف، ولا يستطيع أحدٌ مِن الخَلق أن ينقذهم، لأنهم آمنوا فقط! لم يريدوا مُلكًا ولا سلطانًا، ولكن كلمة واحدة قالوها: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).

ما نَقِم فرعون منهم إلا أنهم آمنوا بآيات ربهم!

وثبت السحَرة، وصار ذلك آية للمسلمين.

والله -عَزَّ وَجَلَّ- أراد في هذا اليوم من أيام الله -وهو قادرٌ سُبْحَانَهُ أن يجعل ذلك الثعبان المبين يأكل فرعون ويبتلعه كما ابتلع مئات الآلاف من الثعابين الوهمية من الحبال والعصي، وكان قادرًا سُبْحَانَهُ أن يأخذ فرعون في تلك الصفحة التي ظلم فيها، ولكنه يمتحن العباد- أن يتخذ منهم شهداء يظلون على الدوام قدوة صالحة لأهل الإيمان؛ شهداء ضحوا بحياتهم وما كانوا يريدون الأجر والقرب من فرعون، ضحوا بذلك كله ورضوا بالقرب من الله والشهادة في سبيل الله.

وليَعلم الناس أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

تركها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لفرعون أيامًا معدودة، ونفذَ أمر فرعون، وقُتل السحرة شهداء عند الله.

والعجب أن فرعون صرف قلبة رغمًا عنه، ورغمًا عن تحريض المجرمين على موسى؛ صرف قلب فرعون عن أن يقتل كبير السحرة -في زعمه-؛ أليس كبير المؤامرة هو الأولى بأن يقتل؟! أليس هو الذي مكر هذا المكر وهو الذي عَلَّمَهم السحر -كما زعم فرعون!-؟! أليس هو الأولى بأن يقتل أولاً؟! لكن تَرَكه فرعون؛ لأنه كان يخافه ويرعب منه، ويرى ويعلم أن هذه الآيات أنزلها رب السموات والأرض بصائر؛ (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) (الإسراء:102).

فسبحان الله على تقليب قلوب العباد، وعلى السلطان الذي يجعله الله لعبادة المؤمنين -سلطان الحجة وسلطان الحفظ-؛ (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) (القصص:35).

بآيات الله ننتصر، وبالوحي نغلب، وبما أيد الله رسله الكرام وأولياءه الصالحين نسير على دربهم: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة