الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

أقسام الناس في التوبة

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد ما يكون اجتهادًا في أمر الآخرة

أقسام الناس في التوبة
أحمد فريد
السبت ١٩ أكتوبر ٢٠١٩ - ٢٣:١٧ م
831

أقسام الناس في التوبة

كتبه/ أحمد فريد   

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالتوبة هي الرجوع إلى الله -عز وجل-، وسلوك الصراط المستقيم الموصل إلى جنته، وترك صراط المغضوب عليهم والضالين الموصل إلى عذابه، والله -عز وجل- أمر الناس جميعًا بالتوبة، فقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ) (النور:31)، وعلق الله -عز وجل- الفلاح بالتوبة فقال: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31)، وأخبر عن الذين لا يدخلون من باب التوبة بأنهم ظالمون، فقال -عز وجل-: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11).

قال بعض السلف: "مَن لم يتب كل صباح ومساء كان من الظالمين، قال الله -عز وجل-: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)"، وأخبر -عز وجل- عن توبته على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، فقال -عز وجل-: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:117).

الناس في التوبة على أقسام:

القسم الأول: مَن لا يوفق لتوبة طوال عمره، ولا يوفق للحظة صدق واحدة مع الله -عز وجل- ومع نفسه، فهو لا يفكر لماذا خلق؟ وما هي الوظيفة المنوطة به؟ فهو يحيا حياته كلها لا يعرف ربه -عز وجل-، ولا يعبده بأمره ونهيه، وإنما يحيا في الدنيا حياة البهائم، كما قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد:12)، فهو يأكل ليعيش ويعيش ليأكل، لا يعرف الوظيفة التي خلق من أجلها، ولا يعرف الغاية التي ينبغي عليه أن يسعى لها؛ لم يقف في حياته يومًا في صفوف المصلين يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5)، لعله لم يدخل المسجد إلا مرة واحدة، ولا يدخله على قدميه، بل محمولًا على خشبته، ولا يدخل من أجل أن يصلي، بل من أجل أن يصلى عليه! فهل ينفعه هذا الدخول؟! إنه لم يدخل بإرادته واختياره، بل بإرادة مشيعيه واختيارهم، لما كان سعيد ابن المسيب سيد التابعين وأعلم التابعين في سياق الموت، كان يغيب عن وعيه ويفيق، فلما غاب عن وعيه، قال نافع بن جبير: "وجهوه إلى القبلة، فلما أفاق سعيد قال: مَن الذي أمركم أن توجهوني أنافع بن جبير؟ قالوا: نعم: قال: والله لو لم تكن وجهتي إلى القبلة، لا ينفعني توجهيكم".

والجزاء من جنس العمل، فكما كان في الدنيا لا يحيا الحياة التي يحبها الله -عز وجل- له ويرضاها له، وهو كذلك ليس جمادًا لا يحس، فهو أيضًا في الآخرة لا يموت فيها ولا يحيا؛ لا يموت فيفقد الإحساس بالألم، ولا يحيا حياة يجد فيها راحته وسعادته، (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) (إبراهيم:17)، أي: يأتيه الهلاك والعطب، والبوار والدمار من كل مكان، ولكنه لا يموت؛ لأنه في دار القرار: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف:77)، وحسب المنايا أن يصرن أمانيا، أي: حسب العبد  مِن البلايا والرزايا، أن يكون الموت أمنيته، قال بعض السلف: "احذر الموت وأنت في هذه الدار، قبل أن تصل إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده!".

فهذا هو القسم الأول من أقسام الناس في التوبة، فهو الذي لم يوفق إلى لحظة صدق واحدة مع ربه -عز وجل- ومع نفسه، وهذا حال كثير من الناس -نسأل الله العافية-.

القسم الثاني: مَن يعرف ربه -عز وجل- برهة من عمره، وزمانًا من دهره، ثم ينقلب لعلم الله -عز وجل- فيه، فيعمل بمعصية الله -عز وجل- ويموت على ذلك، ما أصعب العمى بعد البصيرة، والضلالة بعد الهدى والمعصية بعد التقى، كم من وجوه خاشعة عاملة ناصبة، كم مِن قارب مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرتقي لعب به الموج فغرق، كل العباد تحت هذا الخطر، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء.

ليس العجب ممَن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا!

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا... ) (متفق عليه).

وفي بعض روايات الحديث: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ... ) (متفق عليه)، فقال العلماء: الرجل يعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر، ولكن عنده رياء أو عجب أو كبر يظهر عليه في آخر عمره، فيختم له بعمل من أعمال أهل النار -والعياذ بالله-.

وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "وهذا -بحمد الله- قليل في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، والكثير فيهم مَن يعمل بعمل أهل النار، ثم يوفق لتوبة نصوح، فيعمل بطاعة الله -عز وجل- ويموت على ذلك، كمن يموت في آخر يوم من رمضان أو بعد الانتهاء من الحج، أو وهو ساجد لله -عز وجل-، وقد كان قبل ذلك معرضًا عن الله -عز وجل- والله -سبحانه وتعالى- سبقت رحمته غضبه".

القسم الثالث: وهو مَن يعمل بمعصية الله -عز وجل- زمانًا من عمره ثم يوفق لتوبة نصوح ويموت على ذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا) (متفق عليه).

وهؤلاء على طبقتين: منهم مَن يتوب قبل موته بمدة مديدة تؤهله للوصول إلى الدرجات، ومنهم مَن يتوب قبل موته بمدة يسيرة؛ فحسبه أن ينجو من اللفحات، وأن يفوز بالجنات.

بقي قسم هو أشرف الأقسام، وحال هي أشرف الأحوال، وهي: حال نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو القسم الرابع.

القسم الرابع: وهو مَن يعمل بطاقة الله -عز وجل- عمره كله، ثم ينبه إلى قرب أجله فيجتهد في الطاعة والعبادة، حتى يموت على عمل يصلح للقاء الله؛ لما نزل قول الله -عز وجل-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (النصر)، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد ما يكون اجتهادًا في أمر الآخرة؛ كان لا يقوم ولا يقعد إلا قال: "سبحان الله وبحمده" يتأول القرآن، وكان يعتكف كل سنة عشرًا واعتكف في السنة الأخيرة من عمره المبارك عشرين ليلة، وكان جبريل يعارضه القرآن مرة، فعارضه في السنة الأخيرة مرتين.

وأسر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى فاطمة الزهراء سيدة نساء الأمة بحديثٍ فبكت فاطمة -رضي الله عنها-، ثم أسر إليها بحديث آخر فضحكت؛ فسألها بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عما أسر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليها فقالت: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا فَقَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ حَدَّثَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ، فَبَكَيْتُ لِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّنِي، فَقَالَ: (أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ) فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ. (متفق عليه).

وقد أخبرها -صلى الله عليه وسلم- بأنها أول أهله لحوقًا به -صلى الله عليه وسلم-، فماتت بعدة بستة أشهر وكانت أول أهله لحوقًا به، وكان هذا علمًا من أعلام النبوة.

وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- للحج في العام العاشر من الهجرة، وخرج الصحابة -رضي الله عنهم- معه، فكانوا من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله مد البصر، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ) (رواه مسلم)، والصحابة عرب يفهمون لغة العرب، ويعلمون أن الترجي في كلام الله -عز وجل- وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على القطع كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "عسى من الله واجبة" على عادة الملوك، ففهموا أن هذه الحجة هي حجة الوداع، وزاد مِن ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استشهدهم على أنفسهم، فقال في خطبته بعرفة: (اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللهُمَّ اشْهَدْ) (رواه مسلم)، وكان يرفع إصبعه الشريفة إلى السماء وينكتها إليهم ويقول: (اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ) (رواه مسلم).

ونحن نشهد بأنه قد بلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته.

وفي طريق عودته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة خطب الناس، وقال: (أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ) (رواه مسلم)، وظل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرض بقرب جله جلس يومًا على المنبر وقال: (عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ) فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى، فَقَالَ: "فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا" (متفق عليه). ولم يفهم هذه الإشارة إلا الصديق الحميم (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) (التوبة:40)؛ لذا قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- راوي الحديث: "فعجبنا من هذا الشيخ، فكان العبد الذي خُير هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان أبو بكر أعلمنا"، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يثني على أبي بكر ويقول: (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ).

وودع النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا إلى اليمن ومعاذ يركب الدابة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي إلى جواره ويقول له: (يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي)، فَبَكَى مُعَاذٌ خَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، فإذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يزيد في إحسانه فكيف يكون حال المسيء؟!

فالقسم الرابع من الناس في التوبة: أن يكون العبد مطيعًا طوال عمره، ثم يستشعر قرب الأجل؛ إما لمرض يحسب أنه مرض الموت، أو لكبر سن كأن يرى الشيب في رأسه ولحيته، أو يرى رؤيا تشير إلى قرب أجله، فعليه أن يجتهد في الطاعة والعبادة، حتى يموت على عمل يصلح للقاء، فنسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لتوبة نصوح قبل الموت.

فالبدار البدار إلى التوبة، قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه مجهود الأطباء، فلا ينفع ذل نصح الناصحين ووعظ الواعظين، وتحقق الكلمة عليه أنه من أصحاب الجحيم.

التوبة التوبة... قبل أن يأتيكم من الموت النوبة، فلا تحصلوا إلا على الخسران والخيبة، الإنابة الإنابة... قبل غلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة.

أيها العاصي ما يقطع من صلاحك الطمع، ما نصبنا شرك المواعظ إلا لتقع، فإذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة، فقال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا، فقل لهم: كلا، ذاك خمر الهوي الذي عهدتموه قد استحال خلًّا، يا مَن سود كتابه بالسيئات، أما آن لك بالتوبة أن تمحو؟!

يا سكران القلب بالشهوات، أما آن لفؤادك أن يصحو؟!

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة