الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في حياتنا... أسباب وعلاج

ولا شك أن قسوة الملحدين المُشَارِكين لهؤلاء كانت من أشد أنواع القسوة

مظاهر القسوة في حياتنا... أسباب وعلاج
ياسر برهامي
الخميس ٢٤ أكتوبر ٢٠١٩ - ١١:١٧ ص
1206

مظاهر القسوة في حياتنا... أسباب وعلاج

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد تَعدَّدَت مظاهر القسوة في حياتنا بطريقة غير مسبوقة؛ مصداقًا لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ)، قَيلَ: ومَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: (الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ)، قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟ قَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ). قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟ قالَ: (لَا. إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكُم الزَّمَانِ حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ) (أخرجه أحمد وابن ماجه بنحوه، وصححه الألباني)، وصارت أخبار القتل بيننا، وكذا الجَرح واستعمال السلاح والضرب والتعذيب حتى في الخصومات الشخصية، فضلًا عن مواقع التعذيب في أماكن الاحتجاز وأثناء التحقيق -ليس فقط من أصحاب السلطان؛ بل في تعامل الجماعات المسلحة بعضها مع بعض ومع المدنيين-، وكذلك حوادث الاغتيال والتفجير، والقتل البَشِع.

بل الحروب الظالمة نفسها، والتي يُقتل فيها الملايين لأجل أن تكون أُمَّةٌ هي أَربَي مِن أُمَّةٍ، ولأجل أن يَعلو بعضُ الناس على بعضٍ ويبغي بعضهم على بعض على أسس العرقية الجاهلية، يَنصر الرجل لِعَصَبَةٍ ويغضب لعصبة، أو على أساس المصالح الاقتصادية، ولأن يزداد الأغنياء الأقوياء غِنَى، ويَزداد الفقراء ضعفًا وفقرًا، ومرضًا، وجوعًا وعطشًا؛ هذه الحروب هي مِن مظاهر القسوة البالغة.

وانتشار الاغتصاب والشذوذ الجنسي، والاعتداء على حُرُمات الناس تحت تهديد السلاح، هو مِن أعظم مظاهر القسوة في مجتمعاتنا وحُروبنا هذا الزمان.  

وهذه المظاهر لم تقتصر على الأبدان والأسلحة؛ بل في الكلام أيضًا، والذي بدأ به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثَه في تفسير الهَرج فقال: (الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ)، والكذب نوع من الاعتداء والقسوة على المُخَالِف، والذي يَستغل الكذاب به طيبة نفسه وسذاجته، وكونَه لا يَفترض إلا الصدق فيمَن يحدثه حتى يوصل إليه المعلومة الكاذبة ليضره بها أو يضر غيره.

وأعظم ذلك خَطَرًا: الكذب على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي قال: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه، وهو حديث متواتر).

ومِن أخطر ذلك: الشائعات التي تبلغ الآفاق، ويترتب عليها الفتن والثورات التي صار مدحها -دون النظر إلى مآلاتها من الخراب والدمار- بطولة وكرامة وعزة وانتفاضة للشعوب! ولا يَعبأ الكذابون بما يُحدِثونه مِن رُعب وهَلَع وترويع للناس، بل ويفرحون بعواقب كذبهم مِن سفك الدماء وانتهاك الحرمات.

ومِن مظاهر القسوة في الكلام: اللعن والسب والقذف والشتم، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْر) (متفق عليه)، وقال: (لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ) (متفق عليه)، وقال: (لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ) (رواه أحمد الترمذي، وصححه الألباني).

ويكفي لنعلم خطر الكلمة: أن الله -تعالى- جعل عقوبة كلمة القذف الجلد ثمانين جلدة -قريبة من عقوبة الزانية والزاني-؛ إضافة إلى رد الشهادة أبدًا، والحكم عليه بالفسوق، وجعَل هذه الجريمة من علامات النفاق وأسباب تدمير المجتمعات فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور:19)، وقال في قصة الإفك: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:11)، وقال في غضون ذلك: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:14-15).

والغيبة والنميمة من مظاهر القسوة في الكلام، ولقد لعِبَت وسائل التواصل الاجتماعي أسوأ دَور في نشر القسوة الكلامية والكتابية التي تُدَمِّر الأمم وتُشقي الشعوب؛ لأن القسوة عذابٌ لصاحبها قبل أن تكون عذابًا للمعتَدى عليه، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا) (رواه مسلم).

والتكفير أحد أخطر مظاهر قسوة الألسنة، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) (رواه البزار والطبراني، وصححه الألباني).

أما القسوة في القلوب فهي أَخْطَر وأشد، وهي تشمل القسوة في الجانب الديني، وأشد مظاهرها: تحريف الكَلِم عن مواضِعِه، ونسبة ما ليس مِن الدين إلى الدين والشرع؛ إما لفظًا وإما معنى؛ وبهذا حُرِّفت أديان وكَفَرت أقوامٌ، قال -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:13).

وبَيَّن -سبحانه- أن قسوة القلوب هي سبب تَسَلُّط الشيطان عليها بالشبهات المُضِلَّة، بل ربما وصل الأمر من شدة القسوة إلى أن يُوهِم الشيطانُ مَن قَسا قلبُه أن الرسول أو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال شيئًا وهو لم يقله، وإنما هو تصديق الوهم الذي حصل بسبب الهوى، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الحج:52-54).

وتَأَمَّل كيف جَعَل الله -سبحانه- لِينَ قلوب المؤمنين مِن أهل العلم في مقابلة قسوة الكافرين المُكَذِّبين الذين تسلَّط عليهم الشيطان؟!

فتقع الفِتَن من الشك والريب ثم التكذيب والكراهية لما أنزل الله بسبب هذه القسوة، وعدم لِين القلوب لما أَتَى به الوحي المنزل؛ هو بسبب هذه القسوة، قال الله -عز وجل-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23)، قال هذا بعد أن ذكر ضَرَر القسوة فقال -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الزمر:22).

ولذا كانت البِدَع والفتاوى الباطلة، والأحاديث الموضوعة المكذوبة، علامة على القسوة في القلوب؛ إذ هي من أعظم أسبابها؛ ولذا نجد أن أقسى الناس في التعامل مع المسلمين -بل وغيرهم-، أشد الناس بدعة، ومنهم مَن هو خارج عن المِلَّة: كالقرامطة، والباطنية، والعَلَوِيّين، ووقائعهم عبر الزمان معلومة أثناء استيلائهم على بلد الله الحرام، وقتلهم الحُجّاج ورمي جثثهم في ماء زمزم، وتعطيلهم هذه المناسك التي شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن تُؤَدَّى في الجاهلية والإسلام، ثم اقتلاعهم الحجر الأسود وأخذه إلى بلادهم عشرين سنة حتى رُدَّ إلى موضعه من بيت الله الحرام!

وكذلك أثناء استيلاء الفاطميين على مصر وارتكابهم فيها الفظائع، مِن سَلْخ جلود مَن حَذَّرَ منهم مِن العلماء حتى رحمه اليهودي الذي كان يَسلخه فقَتَلَه!

وكذلك كان العلويون في الأزمنة المختلفة في أواخر الدولة العثمانية.

وكذلك ما وقع عبر الزمان في بلاد الشام في العصور المتأخرة مِن أقسى المذابح التي قادها العلويون؛ وما واقعهم المعاصر الأليم ببعيدٍ عن ذلك.

ووَرِثَهم في ذلك الرافضة؛ الذين هم أشد الناس بدعةً وتكفيرًا للأُمَّة وانتهاكًا لحرُماتها؛ وما القسوة التي حدثت في سقوط بغداد على يد التتار وزعيمهم "هولاكو" مِن قَتْلِ مليون وثمانمائة ألف مسلم في بغداد وحدها -غير ما قُتِل قبل ذلك في البلدان والمدن المختلفة- إلا مِن جراء حقد الشيعة وغِلِّهم وقسوتهم، ونصيحتهم لهولاكو بقتل الخليفة واستباحة بغداد.

وكذلك الخوارج التكفيريون من أشد الناس قسوة في سفكهم الدم الحرام وانتهاكهم حرمات المسلمين بتكفيرهم؛ وما وقع في بلاد المسلمين في زماننا في العراق وسوريا واليمن مِن عظيم القتل والتعذيب والخراب إلا بحقد هاتين الطائفتين من أهل البدع، وتحالفهم مع أعداء الأُمَّة على تدميرها وتدمير بلادها.

ولا شك أن قسوة الملحدين المُشَارِكين لهؤلاء كانت من أشد أنواع القسوة؛ فإذا أردت أن تتأمل قسوة الملحدين، فانظر إلى ما فعله الروس إبان دولة الاتحاد السوفيتي في بلاد المسلمين؛ فالثورة البلشفية قامت على جثث عشرين مليونًا مِن البشر، معظمهم من بلاد المسلمين، وكذا ما فعله "تيتو" في إقامة الاتحاد اليوغسلافي -الذي تحلل بعد ذلك-؛ فقتل خمسة ملايين من المسلمين في البوسنة والهرسك، وباقي بلاد الاتحاد، وكذا ما وقع في بلاد القوقاز أيام "ستالين" وفي العصور الحديثة من أجل قهر هذه الشعوب، وكذلك ما فعله الصينيون في التركستان الشرقية قديمًا وحديثًا؛ كل هذا يزيد على ما عَلِمَه العالَم مِن قسوة محاكم التفتيش في الأندلس.

ومِن قسوة القلوب: الغِلّ والكراهية والبغضاء؛ حالقة الدين كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وعسى أن نبيِّن في سلسلة مقالاتنا أسباب هذه القسوة المُفْرِطة، وبيان علاجها -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة