الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ)... منهج رباني للدعوة -3

(وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ)... منهج رباني للدعوة -3
خالد آل رحيم
الاثنين ٣٠ ديسمبر ٢٠١٩ - ١٠:٠٣ ص
605

(وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ)... منهج رباني للدعوة -3

كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَا تُنْجِزُ لِي يَا مُحَمَّدُ مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَبْشِرْ) فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِرْ! فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ، كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا قَدْ رَدَّ الْبُشْرَى، فَاقْبَلَا أَنْتُمَا) فَقَالَا: قَبِلْنَا، يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: (اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا، وَأَبْشِرَا) فَأَخَذَا الْقَدَحَ، فَفَعَلَا مَا أَمَرَهُمَا بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَادَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: أَفْضِلَا لِأُمِّكُمَا مِمَّا فِي إِنَائِكُمَا فَأَفْضَلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً. (متفق عليه).

والواضح من الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتوقف عند مقالة الأعرابي كثيرًا، ولم يرد عليه ويبرر ويفند ما قاله؛ لأن الله -عز وجل- قال له: (وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ) (الأعراف:199).

وعن ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا، فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلَا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي)، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟) قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، فَنَكَتَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ: (سَلْ) (رواه مسلم).

انظر إلى عظمته -صلى الله عليه وسلم-! فقد أراد اليهودي أن يأخذه إلى زاوية أخري وهي النزاع حول قضية: هل يُقال له يا محمد أم يا رسول الله؟ ولكنه -صلى الله عليه وسلم- لا يلقي لذلك بالًا؛ فالمهم عنده هو عرض حجته ومحبته لإسلام اليهودي سواء قال له: يا محمد أو يا رسول الله، فلا فرق لديه -صلى الله عليه وسلم-، والأدلة كثيرة ووفيرة، والناظر إلى هذه المواقف يجد عاملًا مشتركًا فيها كلها أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يتوقف عند التهم التي يُقذف بها، ولا عند السخافات التي يوصم بها، ولا عند السب والشتم، ولم يكن مهتمًا بمجاراة السفهاء والدفاع عن شخصه لذاته، وإنما كان همه هو بيان الحق، ونصرة المنهج، فتأمل موقفه مع ضماد الذي جاءه ليعالجه مِن المس فلم يرد عليه فيما قاله، وإنما قال: "إن الحمد لله... "، واستمر في حديثه فأسلم الرجل.

وموقفه مع عتبه بن أبي ربيعة، كذلك لم يتوقف عند مقالته وقد اتهمه بتهم كثيرة، لكنه قال له: "أفرغت يا أبا الوليد؟! فاسمع"، ثم تلا عليه القرآن، فعاد عتبة بغير الوجه الذي جاء به، ولو أمضى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقته في مجاراة السفهاء ومجادلتهم؛ لما كان عنده مجال لدعوة الناس.

وكذلك موقفه مع الأعرابي الذي رد البشرى قلم يقل له: لماذا رددت البشرى؟! وإنما اتجه لغيره مباشرة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- ليس عنده وقت للمجادلة الجوفاء.

وتتجلى عظمته -صلى الله عليه وسلم- في محاورته لليهودي حتى إنه لم يعقِّب عليه عندما رفض مناداته بصفة الرسالة، وبل قال له -صلى الله عليه وسلم-: (أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟).

فهكذا كان -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا ينبغي لكل مَن يتبعه أن يكون؛ فلا وقت لديه للمجادلة والمراء ومجاراة السفهاء، وقضاء الأوقات في الرد على هذا وعلى ذاك، وإنما قضاء الأوقات يكون في الدعوة وتبيين الحق للناس، وهذا هو دأب العلماء والدعاة، فيجب عليهم ترك المعارك الجانبية التي يُثيرها أصحاب الأهواء لشغلهم عن مهمتهم الأصلية، وهي دعوة الناس لإقامة شريعة الله في أرضه، ونصرة الدين، وبيان السنة؛ حتى لا تضيع الأعمار في ما لا يفيدنا لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة