الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

صفات عباد الرحمن (15) الصبر

صلاة الصبح في جماعة، فيها كسب من العبد واختيار

صفات عباد الرحمن (15) الصبر
سعيد محمود
الأربعاء ١٥ يناير ٢٠٢٠ - ١٩:٠١ م
788

صفات عباد الرحمن (15) الصبر

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الشاهد من الآيات على الصفة: قال الله -تعالى-: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) (الفرقان:75)، قال السعدي: "أي: المنازل الرفيعة والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه الأعين؛ وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا، كما قال -تعالى-: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:23- 24)".

- ما وصلوا إلى هذه الصفة مِن (حسن الخلق، والحلم، والتواضع، والعلم، وقيام الليل، والخوف من عذاب الله، والتوسط والاعتدال، والسلامة من كبائر الذنوب، وإخلاص التوحيد، وملازمة التوبة، وهجر مجالس اللغوو الزور، والسعي في إصلاح الأهل والذرية، وتحمل مسئولية الدين وإمامة المسلمين) إلا بالصبر(1): (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) (الفرقان:75).

- مدخل العناصر: صبرهم اشتمل على كل أنواع الصبر (الصبر على طاعة الله، والصبر على معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة).

(1) أنواع الصبر:

- اجتمعت الأنواع الثلاثة في موضعٍ واحدٍ في القرآن: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان:17).

النوع الأول: الصبر على طاعة الله:

- وهو المواصلة والمجاهدة في طاعة الله حتى تلقاه، وعدم الالتفات إلى داعي الراحة والكسل، وتحمل المصاعب والمشاق(2): (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99)، (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم:37)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) (رواه البخاري)، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً" (رواه مسلم)، وحين سُئلت عائشة -رضي الله عنها- عن عمله -صلى الله عليه وسلم-؛ قالت: " كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً" (رواه البخاري).

النوع الثاني: الصبر عن معصية الله:

- وهو المواصلة والمجاهدة في ترك معصية الله حتى تلقاه، وعدم الالتفات إلى داعي الشهوات واللذات، وتحمل المصاعب والمشاق: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف:23)، (مع وجود كل دواعي المعصية).

النوع الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة:

- وهو التسليم لقضاء الله وقدره، والرضا بما قدره الله مما يشق على النفوس: قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:155-156).

وقال عن يعقوب -عليه السلام: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف:18)، وقال عن أيوب: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:44)، وقال -صلى الله عليه وسلم- للمرأة السوداء: (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولكِ الجنةُ) (متفق عليه).

(2) فوائد حول أنواع الصبر:

- هي أربع فوائد: (الصبر منه اختياري واضطراري - أيهما أكمل وأفضل؟ - أفضل أنواع الصبر- الصبر فطري أم كسبي).

أولًا: الصبر على الطاعة وعن المعصية يكون اختياريًّا، وأما الصبر على الأقدار المؤلمة فيكون اضطراريًّا. وهذه أمثلة:

- من الأول: صلاة الصبح في جماعة، فيها كسب من العبد واختيار، حيث يجاهد نفسه في فعل الطاعة. فصبره اختياريًّا.

- ومن الثاني: عدم شرب الدخان أو مشاهدة الأفلام، فيها كسب من العبد واختيار، حيث يجاهد نفسه في صبره عن فعل المعصية،

- ومن الثالث: فقد ولد الإنسان، دون كسب منه ولا اختيار، وصبره اضطراري؛ لأنه إن لم يصبر فلن يغير شيئًا.

ثانيًا: الصبر الاختياري أفضل وأكمل من الصبر الاضطراري:

ومن أمثلته:

- صبر يوسف -عليه السلام- عن مطاوعة امرأة العزيز كان أكمل من صبره على إلقائه في البئر والسجن(1).

- صبر إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في محنة الذبح كان أكمل من صبر يعقوب -عليه السلام- على فقد ولده.

- صبر الأنبياء الذين حملوا الرسالات وعاشوا يعلمون الناس أكمل من صبر أيوب -عليه السلام- على المرض(2).

ثالثًا: أفضل أنواع الصبر:

- اختلفوا في ذلك ورجح شيخ الإسلام الصبر على الطاعة، ورجح غيره الصبر على المعصية، وتوسط ابن القيم حيث رأى الأفضلية على حسب الوقت والحال من باب "واجب الوقت".

رابعًا: الصبر فطري أم كسبي؟

- هو فطري وكسبي(3): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) (متفق عليه)، وقال قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) (متفق عليه).

- ما أحوجنا إلى التصبر والاعتبار للوصول إلى الصبر: (انظر إلى الطالب يريد النجاح وكيف يصبر على مشقة المذاكرة، وانظر إلى الغريب المسافر وكيف يصبر على آلام الغربة؛ لأنه يريد تحقيق هدفه، وانظر إلى المريض الذي يريد الشفاء كيف يصبر على الدواء المر(4)، فنحن أحوج؛ لأننا نريد النجاة من النار والفوز بالجنة.

(1) من ثمرات الصبر:

- لو لم يكن له ثمره إلا أنه سبب لنيل هذه الصفات في الدنيا ونيل أجرها في الآخرة، لكفى به نعمة على العبد: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) (الفرقان:75).

- كثرة ذكره في القرآن دليل على عظم فضله وأثره: قال الإمام أحمد: "الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا".

- كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10).

- أعظم معين عند المحن والشدائد: قال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (البقرة:45).

- جمع الله للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَ?ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155-157).

خاتمة:

- هذه صفات عباد الرحمن التي وعدهم الله عليها الجنة، فاجتهدوا عباد الله في تحصيلها: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا . وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا . وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا . إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا . وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا . وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا . وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا . وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا . وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا . أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا . خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) (الفرقان:63-76).

نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى نيل هذه الصفات، حتى نفوز يوم القيامة بالغرفات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فلولا صبرهم على داعي الكبر والتكبر ما صاروا متواضعين، ولولا صبرهم على داعي الغضب ما صاروا حليمين، ولولا صبرهم على داعي النوم والكسل ما صاروا من المتهجدين، ولولا صبرهم على داعي اللذات والشهوات لما صاروا من الخائفين من عذاب رب العالمين، ولولا صبرهم على داعي الإسراف والتبذير ما صاروا من أهل الوسطية والاعتدال، ولولا صبرهم على داعي شهوة الفرج لما صاروا من المتعففين، ولولا صبرهم على كل داعٍ إلى ترك طاعة الله لما وصلوا إلى هذه المكانة، فتأمل فضل الصبر الذي هو حصن للنفوس وللقلوب، وسبيل إلى أعلى الدرجات.

(2) وكان الإمام النووي -رحمه الله- له عشرة دروس في اليوم، وكان الألباني -رحمه الله- يمكث في المكتبة الظاهرية 5 ساعات فوق السلالم يبحث عن معلومة أو حديث (المحافظة على دروس العلم، أو حفظ القرآن، أو صلاة الليل، أو التراويح، ونحو ذلك).

(3) كان صبر يوسف -عليه السلام- عن مطاوعة المرأة، صبر رضا واختيار لاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي موافقة المرأة، من كونه شابًا، عزبًا، غريبًا، عبدًا ثم المرأة الجميلة، وذات المنصب، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية، بل توعدته إن لم يفعل، ومع كل هذه الدواعي صبر اختيارًا.

(4) ولذلك قال -تعالى-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف:35)، ولم يقل: "فاصبر كصبر أيوب"؛ ولذلك أيضًا كان بعض السلف يقول: "ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ" (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

(5) هناك بعض الناس فيهم طبيعة الصبر، وبعض الناس لا يصبرون، وهكذا كثير من النساء.

(6) قصة الأخ الذي أجرى عملية تكميم للمعدة وهو يعيش الآن على طعام طفل تقريبًا! انظر إلى صبر الإنسان على الحرمان من شهواته إن كان له هدف يريد الوصول إليه!

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة