الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في المجتمع (أسباب وعلاج) -19

فلو أن الناس تفرغوا بالنية والإرادة، وجعلوا الهمَّ هَمًّا واحدًا؛ لكفاهم الله وأغناهم

مظاهر القسوة في المجتمع (أسباب وعلاج) -19
ياسر برهامي
الخميس ٢٧ فبراير ٢٠٢٠ - ١٨:٥٤ م
776

مظاهر القسوة في المجتمع (أسباب وعلاج) -19

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيجب على الآباء أن يعلِّموا أبناءهم أسماء الله وصفاته؛ ليس بالقطع على طريقة المتكلمين السخيفة المدمرة؛ التي لا يعي الناس منها شيئًا ويتركون الموضوع من أصله، ولقد صادفت في الطريق يومًا ابنًا صغيرًا لا يجاوز الثالثة من عمره بالكاد يتكلم، يسأل أباه فيقول: "ربنا فوق، أليس كذلك يا أبي؟"، فقال أبوه: "ربنا في كل مكان يا بني!"، فقلت له: "ابنك أعلم منك، فالله مستوٍ على عرشه فوق السموات، وليس أنه في كل مكان؛ لأننا نحن مِن ضمن الأماكن؛ فهل هو موجود بداخلنا أو هو موجود في الأشياء التي حولنا؟!"، فأقرَّ الأب وشكر، واعتذر عما بدر منه من كلمات مع ابنه.

بالتأكيد قد قال الابن ذلك بسبب فطرته السليمة لا أن الأب علمه ذلك؛ لأن الأب لو علمه؛ لعلمه أن الله في كل مكان، كما يظن هو -أو كما قال هو-.

إن هذه الجلسة الخاصة في التربية هي الجلسة المفقودة في بيوتنا الآن، وهذا من أعظم أسباب التفكك المعنوي؛ فإن أغلب الناس مشغولون انشغالًا عجيبًا؛ فأحسنهم حالًا مَن كان مشغولًا بعمل مباح حلال؛ يخرج قبل أن يستيقظ الأولاد، ويعود بعد أن يناموا؛ وربما بقي الشهور، بل السنين أحيانًا في الخارج يبحث عن وسيلة للرزق، والأم مشغولة بالطبخ والكنس والغسل، وهي لا تقرأ شيئًا ولا تتعلم شيئًا؛ وبالتالي يحدث فقدان تام للأبناء، نلحظ أنهم ينشئون غير ملتزمين، ونتساءل: لماذا ينشأ الأبناء غير ملتزمين مع أن الأب والأم ملتزمان؟!

نقول: ذلك بسبب غياب هذه الجلسة بين الأب وابنه.

وترى هذه الجلسة الخاصة أيضًا في جلسة نبي الله إبراهيم مع ابنه إسماعيل حين قال له: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) (الصافات:102)، جلسة كما تسمع خاصة، لا يوجد أحد فيها غيرهما، كما أسلم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوجته خديجة يصليان، وقد كان أبو بكر وعمر دائمًا يرافقان النبي -صلى الله عليه وسلم- في خروجه وذهابه وإيابه؛ حتى إن علي بن أبي طالب لما سار في جنازة عمر، قال: "وددت أن تدفن مع صاحبيك"، ولما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ميمونة قال لها: أصلَّى الغلام -يعني ابن عباس رضي الله عنهما-؟ ولما قام من الليل قام ابن عباس يصلي معه، وكذلك لما عَلَّمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ابنَ عباس -رضي الله عنهما- حين قال له: (يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وهذه وصية عظيمة تتضمن أصولًا في التربية الاعتقادية، والعبادية، والعملية، وغير ذلك.

 وفي حديث معاذ -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ؛ فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟) قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: (لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا) (متفق عليه)، إذًا لم يكن أحد معهما غيرهما؛ فأخبر بها معاذٌ في آخر حياته تأثمًا.

أعداء الإسلام حرصوا على أن لا توجد مثل هذه الجلسة؛ فرتبوا نظام الحياة على أن يكون الناس بين أحد أمرين: الفقر المُنسي، والغنى المُطغي؛ فالغنى المطغي يجعل الغني يزداد غنى؛ فهو مشغول لأنه رجل أعمال لا يعرف شيئًا عن أبنائه وبناته وأهله؛ ينام بضع ساعات في اليوم والليلة، وباقي يومه في العمل، لا يعرف شيئًا إلا شهوته وأمواله، والبيت بالنسبة له مجرد فندق، أو فندق مِن الفنادق ينزل فيه أحيانًا للطعام والنوم.

وأما النوع الآخر من الناس فهو: الفقير المطحون؛ يعمل أيضًا وقتًا طويلًا جدًّا، ولا يكاد يكفي ضروريات حياته، وهذا مِن توابع النظام الربوي اليهودي، والنظام الرأسمالي المبني على الظلم والاحتكار؛ لكي يُطحن الفقراء بالربا، لكن ما الحل: هل نترك العمل ولا نتكسب؟!

نقول: (البَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ) (رواه البخاري)، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فالبركة تكون في المال كما تكون في الصحة، وفي الوقت، وفي الصحبة للأهل والأولاد كذلك؛ فالعلاج هو تقوى الله كما قال الله -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق:2-3)، لكن لو أخذنا نحسب كم نكسب مِن المال، وكم ننفق لنرى هل يكفي هذا أم لا؟ فهذا معناه مِن حيث نحتسب، ولكنَّ الله قال: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، فالتقوى عاقبتها أن يرزقنا الله مِن حيث لا نحتسب.

أما الثمرة المُرَّة من كثرة الانشغال، وعدم الكفاية، وعدم وجود فرصة للجلوس مع الأبناء؛ فهذا بسبب قلة التقوى، وبسبب التباعد عن الله، كما قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (يا ابْنَ آدَمَ تَفرَّغ لِعبَادَتي؛ أمْلأْ قلْبَكَ غِنىً، وأمْلأْ يَديْكَ رِزْقًا، يا ابْنَ آدَم لا تُباعِدْ مِنِّي؛ أَمْلأْ قلْبَك فَقْرًا، وأمْلأ يديْك شُغْلاً) (رواه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).

فلو أن الناس تفرغوا بالنية والإرادة، وجعلوا الهمَّ هَمًّا واحدًا؛ لكفاهم الله وأغناهم، وإن سعى الإنسان في أمر دنياه بالحلال دون أن يكون ذلك طاغيًا؛ فلن تكون هذه الفتنة التي تجعل الإنسان مثل ثور معلق بساقية لا يعرف ما يفعل، وهذه حياة أوربا وأمريكا؛ بل والعالم الذي يلهث من ورائهما، يعمل الإنسان وقتًا طويلًا، ثم يعود منهكًا ويقضي باقي يومه في مشاهدة التلفاز، أو يجلس على المقهى، وأنت لا تجد اليوم مقهى إلا وله رواده في أي وقت من ليل أو نهار، ومقاهي الإنترنت اليوم مع الركود الشديد هي من أنشط المحلات وأكثرها كسبًا!

ثم زادت الأمور قسوة وشدة بوجود الهواتف المحمولة التي تحمل كل وسائل التواصل الاجتماعي، التي تجعل الإنسان يعيش في عالمٍ افتراضي بعيدًا عن حقيقة الحياة؛ فينبغي أن تسمى: "وسائل التقاطع الاجتماعي!"، فإذا كان الأمر كذلك؛ فماذا يبقى من وقت لهذه الجلسة التربوية الأبوية؟!

هذا الذي يريده أعداؤنا.

 وأبناؤنا يتعرضون لضغطٍ شديدٍ كي يلعبوا كما يلعب الناس، ويشاهدوا أجهزة الإفساد ووسائل التقاطع كما يشاهدها الناس؛ لكن الحل هو في القرب مِن الله، ومزيد مِن التقوى والتفرغ بالقلب للعبادة، وبهذا تحل كل المشاكل، ونجد وقتًا نجلس فيه مع أبنائنا.

هذه الوسيلة للتربية أطلنا فيها الكلام؛ لأهميتها سواء على المستوى الشخصي أو المستوى الدعوي في المسجد، وكذلك كل مَن هو مسئول عمَن يربيهم، ويجلس معهم، ويذكرهم بالله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة