الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

البخاري وصحيحه الجامع (13) شبهة فقد النسخة الخطية الأصلية

مما لا شك فيه أن البخاري كتب كتابه بخطه، وقد عرضه على شيوخه

البخاري وصحيحه الجامع (13) شبهة فقد النسخة الخطية الأصلية
شحات رجب بقوش
الخميس ١٢ مارس ٢٠٢٠ - ٠٩:٥٦ ص
792

البخاري وصحيحه الجامع (13) شبهة فقد النسخة الخطية الأصلية

كتبه/ شحات رجب بقوش

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فيهاجم البعض صحيح البخاري، ويشكك في نسبته لإمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله-، وذلك بشبهة فقدان أي نسخ مخطوطة بخط البخاري نفسه للصحيح، ولو كان الإمام البخاري قد كتب هذا الكتاب؛ فلماذا لا نجد النسخة الأصلية التي خطّها بيده؟ ويقولون: إنّ أقدم نسخة مخطوطة لصحيح البخاري تعود إلى القرن الرابع الهجري.

ومما لا شك فيه أن النسخة الخطية لأي كتاب إذا ثبت أنها بخط المؤلف فإنها الكنز الثمين، لإفادتها صحة نسبة الكتاب لمؤلفه، والذي يطالب بالنسخة الخطية لصحيح البخاري التي بخط جامعه، فهذا يعتبر طرحًا علميًّا مضحكًا لرجل لا يعرف الظروف العلمية والتاريخية التي واكبت جمع البخاري لصحيحه.

ويمكن الرد على هذه الشبهة من عدة وجوه:

الوجه الأول: مما لا شك فيه أن البخاري كتب كتابه بخطه، وقد عرضه على شيوخه -كما ذكرنا من قبل-، ولكن بيننا وبين سنة وفاة البخاري 12 قرنًا من الزمان، ومن الصعب على نسخة كتبت في ذلك الزمان بالمواد المتاحة حينئذٍ أن تبقى هذا الزمان دون تحلل أو تلف، وخاصة إذا كانت متداولة، ويرغب كل إنسان في الاطلاع عليها كصحيح البخاري.

الوجه الثاني: أن الحالة العلمية في القرون الأربعة الأولى -وهذه تسمَّى عصر الرواية- لم تكن تعتمد على نسخ الكتاب فحسب، بل كانت الرواية الشفهية أوثق من مجرد النقل من نسخة المؤلف، فبعد ما جمع البخاري صحيحه سمعه تسعون ألف رجل من الإمام البخاري نفسه -رحمه الله-، كما أخبر بذلك أحد أشهر تلاميذه، وهو محمد بن يوسف الفربري (المتوفى سنة 320هـ) (انظر: تاريخ بغداد)؛ هؤلاء التلاميذ كانوا يسمعونه منه ويكتبون الكتاب كاملًا، ثم يقابلونه بعد الانتهاء على نُسخته، بحيث تكون نُسخهم طبق الأصل عن نسخة البخاري.

ثم جاء بعدهم جيل آخر سمع الكتاب من تلاميذ البخاري وقابلوا نُسخهم على نُسخ تلاميذ البخاري، ودونوا أسانيدهم على طرر نسخهم من الكتاب، وهكذا، حتى تواترت نسبة الكتاب، ولو ضاع الأصل الذي خطّه البخاري بيده فلن يضر ذلك في شيءٍ؛ لكون الكتاب قد انتشر وفشا بين التلاميذ، ولم يكن يومًا بمعزل عن أيدي العلماء، بل تناولوه بالدراسة -كما سبق أن أوضحنا- فمنهم الشارح، ومنهم المستدرك، ومنهم المختصر، ومنهم المستخرِج، ومنهم المترجم لرجاله، فكل هذا يزيد من ثبوتية نص الكتاب لمؤلفه.

الوجه الثالث: مما اتفق عليه بين المشتغلين في تحقيق أو فهرسة التراث أنه ليس شرطًا لصحة نسبة الكتاب لمؤلفه أن يكون بخطه، بل هناك من الأمور التي لو وجدت تكون بنفس قوة خط المؤلف، منها: إسناد النسخة من الناسخ إلى المؤلف، وطباق السماع المدونة على هوامش وطرة النسخة، والتي تحمل أسماء الأعلام الذين سمعوا النسخة أو قرئ عليهم، وتملكات النسخة، وغير ذلك.

الوجه الرابع: انتشار نسخ البخاري في العالم، فما مكتبة من مكتبات المخطوطات في العالم إلا وفيها عدة نسخ منه، ولا توجد فروق جوهرية تذكر بين هذه النسخ مما يعطي تصورًا واضحًا للأصول المتقنة التي نقلت منها.

الوجه الخامس: أنه فرضًا لو ظهرت في إحدى خزانات الكتب مخطوطة، واُدعي أنها بخط البخاري، دون أن يكون لها إسناد، ولا عليها سماعات فهذه تسمى وجادة، وهي أقل درجات تحمل العلم -كما هو معروف عند المحدثين-، فلو حدث تعارض بين نسختين أحدهما مسندة، والأخرى وجادة؛ تُقدم المسندة.

وأخيرًا: توجد نسخ متقدمة جدًا لصحيح البخاري، وهي قريبة العهد بزمانه منها قطعة (52 ورقة) من صحيح البخاري (تضم كتابي الزكاة، والصوم، وبعض الحج) محفوظة في جامعة كمبردج، وقدَّم المستشرق منجانا دراسة عنها نشرت عام 1936 بإشراف المستشرق مارجليوث، تفيد بأنها نسخة أبي زيد المروزي (ت371هـ)، التي سمعها من الفربري تلميذ البخاري عام (318هـ)، أي الذي يتناول هذه القطعة في جامعة كمبردج يكون بينه وبين البخاري رجلان (المروزي صاحبها، والفربري تلميذ البخاري) قد جاء في أبي زيد المروزي: عن الحاكم أبي عبد الله والخطيب البغدادي والنووي وغيرهم: حدث أبو زيد ببغداد، ثم جاور بمكة، وحدث هناك بالصحيح، وهو أجلُّ من رواه.

بل هناك مِن أهل العلم مَن اطلع على نسخة الصحيح التي بخط البخاري نفسه، منهم: المستملي (ت376هـ) -أحد الرواة عن محمد بن يوسف الفربري- حيث يقول: انتسخت كتاب البخاري من أصله كما عند ابن يوسف (ينظر "التعديل والتجريح" للباجي (1 /310)، ورواية المستملي هذه معروفة، وقد نقلها عن الفربري ووثقها بنسخة البخاري التي بخطه.

وبالتالي يتضح أن هذه الشبهة مجرد تشويش فقط، وليس لها أساس علمي؛ ولو سلِّم لها لخرج هؤلاء يومًا ما يطالِبون بالنسخة الأصلية من القرآن التي كتبها عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وهذا أمر يرده التواتر، كذا سيشككون في كل الكتب التي لا يوجد لها أصل خطي بخط مؤلفيها، وغالب التراث الإسلامي من هذا النوع.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة