الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الشيخمهندس (3)

تخطيط المدن

الشيخمهندس (3)
خالد فوزي
الاثنين ١٦ مارس ٢٠٢٠ - ١٢:٠٨ م
552

الشيخمهندس (3)

كتبه/ خالد فوزي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد تناولتُ سابقًا بعضًا من المنشآت التي كان ينبغي أن يكون (الشيخمهندس) حاضرًا فيها في مكة والمشاعر، وأستكمل ههنا بعضًا من الأمور الهندسية التي تحتاج إلى (الشيخمهندس)، ومنها:

تخطيط المدن:

لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كانت أرض الوباء، حتى قالت أم المؤمنين كما في رواية البخاري: "قَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا -تَعْنِي مَاءً آجِنًا-"، فهو متغير الطعم واللون، فلا يستسيغه المرء شربًا، ولا تسر به العين رؤية، وقد وقع المرض في الصحابة الكرام فأصابتهم حمى المدينة، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بعددٍ مِن الأمور التي تكفل ذلك، ومنها: الدعاء، فقال كما في الصحيحين: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ)، ثم كانت الأوامر النبوية بإجراءات النظافة العامة، فالطهارة الحسية شرط لصحة الصلاة، وهي تشمل الغسل عند موجبه، والوضوء والتيمم.

وقد كان الإسلام الأرفع في اعتبار هذه الأمور كلها: فنص على وجوب الاغتسال مرة في كل سبعة أيام، والغسل يوم الجمعة، ورغب في قص الأظفار، والشارب، وإزالة شعر الإبط والعانة، والتسوك والتطيب، بل جعل ذلك وغيره من سنن الفطرة؛ أما النظافة الحسية للمجتمع، فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أوامر لتنظيف مناخ المدينة، والوقاية من أي مرض، بدءًا من النظافة الداخلية للبيوت، ففي الحديث الحسن: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (طَهِّرُوا أَفْنِيَتَكُمْ فَإِنَّ الْيَهُود لَا تُطَهِّرُ أَفْنِيَتَهَا) (رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني)، وفي حديث الصحيحين المشهور بحديث (أم زرع) قالت أم زرع: (جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ، لاَ تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، وَلاَ تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، وَلاَ تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا).

والمقصود أنها لا تترك الكناسة والقمامة فيه مفرقة كعش الطائر، بل هي مُصلحة للبيت مُعتنية بتنظيفه، كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تلويث المصادر العامة للظل والماء، ففي مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ) قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ).

وحض النبي -صلى الله عليه وسلم- على تنظيف الطرق وإزالة المؤذي عنها، بل جعل إماطة الأذى عن الطرق مِن شعب الإيمان، وحض على التشجير والزراعة، فالنباتات تقوم بتنقية بليغة للهواء، وجعل حريم الشجر -وهو المكان الذي تحتاجه الشجرة حولها لتنمو- مقدرًا بارتفاعها، لامتداد الجذور، ومعلوم أن هذه التنظيمات تراعي الصحة الزراعية.

ومن الإجراءات المتعلقة بالتخطيط الهندسي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل طرق المدينة واسعة يتخللها الهواء الصحي، ففي البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قل: "قَضَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ"، ومعلوم أن عرض الشارع الصحي له علاقة بارتفاع المباني، وإذا عرفنا أن ارتفاعات دور المدينة من طابق واحد، أو طابق وعِلِيَّة، أي: الطابق الثاني منخفض السقف، فهي لا تزيد عن نحو (3.5 مترًا)، ونقدر بنحو سبعة أذرع، فيكون عرض الطرق الداخلية يساوي تقريبًا ارتفاعات أعلى المباني، وهذا غاية ما يمكن أن تقدمه لنا تنظيمات أي بلدية معاصرة، بل يسمحون أن تكون الارتفاعات (مرة ونصف أو مرتين عرض الطريق) لقلة الأراضي وحاجة الناس، فسبقت الرعاية الصحية النبوية الدنيا بهذا كله، والأذرع السبعة مناسبة أيضًا للمشاة والدواب في ذلك العهد، كما أن الشوارع غير الواسعة جدًّا تؤدي دورًا في تظليل البيوت للشوارع، وهو ما يؤدي إلى تقليل حرارة الشارع.

ولما مصَّر المسلمون الكوفة والبصرة جعلوا عرض الأزقة سبعة أذرع، لكن جعلوا الشارع الأعظم ستين ذراعًا، وسائر الشوارع عشرين، وذلك للحاجة النازلة.

وأما المباني: فلابد للمهندس أن يصمم المباني بحيث لا يمكن فيها كشف عورات الجيران؛ ولذا كانت البيوتات والقصور القديمة في العصور الإسلامية تكون حدائقها داخلية، وتكلم الفقهاء في حقوق الارتفاق، والتعلية وغير ذلك، كما أن اختيار وضع الكُنُف في غير اتجاه القبلة منوط بالمهندس العالم بهذه الأمور، بل وطبيعة ترتيب الغرف والحمامات داخل المباني، لابد أن تراعي الخصوصيات الشرعية، حتى لا يكون البلاء واقعًا بعد إنفاق الكثير من الأموال في البناء.

وأما المساجد: فلابد أن ينتبه المهندسون إلى أن أعلى المسجد وأسفله وقف للمسجد، فلا يصح وضع الحمامات في البدروم، تحت مكان الصلاة في المسجد، فإن وقف الأرض على المسجد، يجعلها وما أسفلها كذلك، لحديث الصحيحين: (مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)؛ فدل على أن الأسفل له حكم الأعلى، فهذا مِن أهم ما نحتاج فيه إلى الشيخمهندس.

والله -تعالى- أسأل أن يبصرنا بالحق ويهدينا إلى سواء السبيل.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

 

تصنيفات المادة