الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (27) آيات من القرآن في ذم القسوة (5)

يجوز عقد الأمان للكفار؛ رغم كفرهم وقسوة قلوبهم وخيانتهم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (27) آيات من القرآن في ذم القسوة (5)
ياسر برهامي
الأحد ٠٣ مايو ٢٠٢٠ - ٠١:٣٣ ص
585

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (27) آيات من القرآن في ذم القسوة (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:13).

قال الطبري -رحمه الله- في قوله -تعالى-: "(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ): هذا أمر مِن الله -عز ذكره- لنبيَّه محمد -صلى الله عليه وسلم- بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود. يقول الله -جل وعز- له: اعفُ يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين همُّوا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جُرْمهم بترك التعرُّض لمكروههم؛ فإني أحب مَن أحسنَ العفو والصَّفح إلى مَن أساء إليه.

كان قتادة يقول: هذه منسوخة، نسختها آية "براءة" (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29)"، وساق أسانيده عن قتادة بالقول بالنسخ.

ثم قال ابن جرير -رحمه الله-: "والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر هو ما كان نافيًا كلَّ معاني خلافهِ الذي كان قبله، فأمَّا ما كان غير نافٍ جميعَه فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبرٍ من الله -جل وعز- أو من رسوله -صلى الله عليه وسلم- وليس في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ... ) الآية، دلالة على الأمر بنفي معاني الصَّفح والعفو عن اليهود.

وإذ كان ذلك كذلك، وكان جائزًا مع إقرارهم بالصَّغار، وأدائهم الجزية بعد القتال؛ فالأمرُ بالعفو عنهم في غَدْرة همُّوا بها، أو نكثةٍ عزموا عليها، -ما لم يَنْصِبُوا حربًا دون أداء الجزية، ويمتنعوا من الأحكام اللازمَتِهم- لم يكن واجبًا أن يُحْكم؛ لقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ... ) الآية، بأنه ناسخ قوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)" (انتهى).

أحببتُ أن أنقل هنا كلام الطبري كاملًا في ترجيح عدم النسخ؛ لاحتمال ورود العفو والصفح مع فرض الجزية والصغار؛ لشدة الحاجة إلى هذه المسألة في واقع المسلمين.

 ويُفهم منه كذلك: أن أنواع العهود الأخرى يمكن -مع نقضهم لها- إمضاؤها، والحفاظ عليها والعفو عنهم؛ وذلك لأن الكثيرين حملوا كلام العلماء في النسخ على المعنى الاصطلاحي؛ الذي يعنى به إلغاء الحكم السابق بالكلية؛ وهذا أدَّى بهم إلى إلزام أنفسهم والمسلمين بما يناقض مصلحتهم، وبما لا قدرة لهم عليه، ولا طاقة لهم به، مع أن معنى التخصيص والصحيح فيها وفي غيرها، فهي أحوال حسب مصلحة المسلمين؛ رغم ثبوت كفر اليهود وقسوة قلوبهم، وتحريفهم للكلم عن مواضعه وخيانتهم؛ إلا أن ذلك لا يمنع بقاء بعض أنواع العهود معهم؛ حسب مصلحة المسلمين؛ سواء كان عهد الذمة الذي ذكره ابن جرير، أو العقد المطلق دون تحديد مدة، ودون دفع الجزية، وهو الذي كان قائمًا بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين اليهود وقت نزول الآية، وكان هذا العهد مع يهود بني قينقاع ويهود بني النضير وبني قريظة أول ما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة قبل أن ينقضوه فيحاربهم النبي -صلى الله عليه وسلم- حين كانت المصلحة في ذلك.

 وكذلك كان هذا النوع من العهد المطلق بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين يهود خيبر، والذي ظل قائمًا بعد فرض الجزية سنة تسع؛ ليظل عقدًا جائزًا غير لازم، يجوز لأي من الطرفين إلغاؤه؛ لأن المصلحة كانت في ذلك؛ لعزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على إخراج المشركين كلهم من جزيرة العرب.

وهذا النوع من العهود هو أكثر عهود الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين، كما ذكره ابن القيم -رحمه الله-، وهو الذي نزلت براءة بنقضه وإلغائه؛ لا بنسخ تشريعه بالكلية؛ وذلك حسب المصلحة والمفسدة والقدرة والعجز، والقوة والضعف.

أو كان عهد الهدنة المؤقت اللازم كعهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أهل مكة في الحديبية، وقد نقضه المشركون؛ "حين همَّ ثمانون رجلًا منهم بالفتك برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فأُمْسِك بهم؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوهُمْ، يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ، وَثِنَاهُ) (رواه مسلم)، وأنزل الله في ذلك: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ? وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الفتح:24)؛ فرغم أنهم نقضوا العهد، وكان جائزًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين معاملتهم بذلك؛ إلا أنه لما كانت المصلحة -في ذلك الوقت- إمضاء العهد أمضاه -صلى الله عليه وسلم- وعفا عنهم، وهو يعلم أنهم سينقضونه مرة ثانية، وعند ذلك تكون المصلحة في قتالهم، وقد كان؛ فحين نقضوه بإعانة بني بكر على خزاعة-أهل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم-؛ نقض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهدهم وقاتلهم وفتح مكة، وكل هذا يبيِّن لنا جواز الصفح والعفو للمصلحة الراجحة.

 وكذا يجوز عقد الأمان للكفار؛ رغم كفرهم وقسوة قلوبهم وخيانتهم؛ بل يجب إذا كان بطلب منهم لمعرفة الإسلام، قال -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة:6)، وهو جائز للأغراض الأخرى كالتجارة وغيرها.

ولزيادة البيان في أمر النسخ في هذه الآية ونحوها نذكر أقوال العلماء في ذلك:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في الصارم المسلول ص 221: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: "(وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال:61)، قال ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في "براءة": (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ... ) الآية"، وفيه نظر؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك؛ فأما إذا كان العدو كثيفًا؛ فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم) (انتهى).

والصحيح أن هذا نوع من التخصيص، قال القرطبي -رحمه الله-: "قال ابن العربي: قد قال الله -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ) (آل عمران:139)؛ فإذا كان المسلمون على عزة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة؛ فلا صُلْح، وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح؛ بنفع يجتنبونه، أو ضرر يدفعونه؛ فلا بأس أن يبتدأ المسلمون إذا احتاجوا إليه، وقد صالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، وقد صالح الضَّمريَّ وأُكيد رَدُومة وأهْلَ نجران، وقد هادن قريشًا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده، وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، والوجوه التي شرحناها عاملة.

وقال الشافعي -رحمه الله-: لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية؛ فإن هودن المشركون أكثر من ذلك؛ انتقض؛ لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب من المالكية: تجوز مهادنتهم السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة" (انتهى).

ولقد بينا تفاصيل هذه المسألة في كتابنا: "وثيقة المدينة"، وبيَّنا أن الصحيح التفريق بين العهد المطلق وبين العهد المؤقت -الهدنة-، والمقصود أن يقوى المسلمون فينبذوا إليهم على سواء قبل قتالهم، كما بيَّنه ابن القيم -رحمه الله- في أحكام أهل الذمة.

قال ابن حجر في الفتح: "قال الشافعي: إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جازت لهم مهادنتهم على غير شيء يعطونهم؛ لأن القتل للمسلمين شهادة؛ ولأن الإسلام أعز أن يعطي المشركين على أن يكفوا عنهم؛ إلا في حالة مخافة اصطلام المسلمين لكثرة العدو؛ لأن ذلك مِن معاني الضرورات، وكذلك إذا أُسِرَ رجلٌ مسلمٌ فلم يُطلق إلا بفدية جاز".

قال ابن قدامة في المغني: لا تجوز المهادنة مطلقًا من غير تقدير مدة؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية. وقال: وتجوز مهادنتهم على غير مال؛ وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم؛ فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه، وهو مذهب الشافعي؛ لأن فيه صغارًا على المسلمين، وهذا محمول على غير حالة الضرورة؛ فأما إذا دعت إليه الضرورة؛ وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر فيجوز؛ ولأن بذل المال إن كان فيه صغار؛ فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه؛ وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيلهم إلى كفرهم" (المغني 8/ 459 -461).

قال الشيباني في السير الكبير (92/ 16): "وإذا خاف المسلمون المشركين فطلبوا موادعتهم؛ فأبى المشركون أن يوادعوهم حتى يعطيهم المسلمون على ذلك مالًا؛ فلا بأس بذلك عند تحقق الضرورة" (انتهى).

وبهذه النقول كلها يتضح لك أنه لا خلاف بين السلف أن الأمر بالقتال للكفار حتى يعطوا الجزية إنما هو حسب الإمكان والقدرة، وأما ما لا قدرة عليه فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولكن عليهم الأخذ بأسباب القدرة حتى يزول عنهم هذا الاضطرار، والله أعلى وأعلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة