الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

كيف تُبنى الأمم؟ (2) أنموذج من حياة نبي الله يوسف -عليه السلام-

من فقه الداعية أن يبدأ بالأمور المهمة أولًا

كيف تُبنى الأمم؟ (2) أنموذج من حياة نبي الله يوسف -عليه السلام-
وائل عبد القادر
الأربعاء ١٣ مايو ٢٠٢٠ - ١٣:٢٧ م
623

كيف تُبنى الأمم؟ (2) أنموذج من حياة نبي الله يوسف -عليه السلام-

كتبه/ وائل عبد القادر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال الماضي أسس بناء الأمم على منهج الأنبياء، وكمثال لهذا تناولنا دعوة يوسف -عليه السلام-، وبيَّنا أنها تقوم على ركيزتين أساسيتين، وهما:

أولًا: العقيدة الصحيحة.

 ثانيًا: الأخلاق الحميدة.

واليوم كلامنا عن الركيزة الأولى، وهي:

أولًا: العقيدة الصحيحة:

وهو ما ظهر جليًّا في أحداث القصة من داخل السجن حيث قدَّم العقيدة الصحيحة للفتيين اللذين كانا معه بالسجن، واغتنم فرصة أنهما مَن بدأ الكلام، وكان لهما حاجة لديه، وهي تأويل رؤياهما، فانطلق يعلم التوحيد الخالص، فقال -عليه السلام-: (... لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ . يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:37-40).

فتأمل كيف دعى إلى التوحيد بشقيه: (لا إله) (إلا الله)، فنبذ المعبودات الباطلة ثم أثبت اتباع الملة الحنيفية، وهذه هي خلاصة شهادة التوحيد التي قال -تعالى- عنها: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256).

 وهذه هي زبدة دعوة الرسل جميعهم كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (النحل:36).

وهو من فقه وحكمة الداعية أن يغتنم فرصة الدعوة حين تأتيه، وأن يدعو الناس إلى التخلي عما في معتقداتهم وأخلاقهم من انحرافات وشوائب ثم التحلي بالمحامد ومعالي الخصال ومحاسن العقيدة، وبيان أن هذه الأمور هي التي بها يتأهل الإنسان لقبول العلم ويفتح الله تعالى له من أبوابه، بل وينال بهذه العقيدة الخيرات والكرامات.

قال أبو السعود في تفسيره للآية:

"... أنه إنما حاز هذه الكمالاتِ، وفاز بتلك الكراماتِ؛ بسبب أنه اتبع ملةَ آبائِه الكرامِ ولم يتبع ملةَ قومٍ كفروا بالمبدأ والمعاد، وإنما قاله -عليه السلام- ترغيبًا لصاحبيه في الإيمان والتوحيدِ، وتنفيرًا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلالِ، وقُدّم ذكرُ تركِه لملّتهم على ذكر اتباعِه لملة آبائِه لأن التخليةَ متقدمةٌ على التحلية.

وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية: "... وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى، واتبع المرسلين، وأعرض عن طريق الظالمين فإنه يهدي قلبه ويعلّمه ما لم يكن يعلمه، ويجعله إمامًا يقتدى به في الخير، وداعيًا إلى سبيل الرشاد".

فمن فقه الداعية أن يبدأ بالأمور المهمة أولًا، ولا يختلف أحد أن التوحيد هو أعظم المعروف الذي يدعو إليه الداعي ويأمر به، وأن الشرك بجميع مظاهره من أعظم المنكر الذي ينبغي النهى عنه،

ففي ذلك كله تنبيه إلى أهمية العقيدة الصحيحة في صلاح البلاد والعباد، وأنها أول ما ينبغي على العباد أن يحققوه ويبدأوا به عند تطبيق منهج التغيير المنشود، فيسعوا جاهدين إلى تطهير العقيدة من شوائب الشرك صغيره وكبيره، وليوقنوا أن إهمال هذا الركن وتلكم الركيزة من أعظم معوقات التغيير والإصلاح المأمول.

ومن هنا نعلم جيدًا: أن انتشار بعض مظاهر الشرك في المجتمع من أول وأهم أسباب تخلفهم وتسلط الأعداء عليهم، ومن أعظم معوقات نهضتهم وتقدمهم؛ لأن المسلم الصادق يبتغي عند الله الرزق، والقاعدة أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وأعظم الطاعة تحقيق التوحيد الخالص لله -تعالى-.

ومن هنا نوقن أن ما يفعله فئام من الناس أمام أضرحة بعض المنسوبين للصلاح مِن صرف بعض أنواع العبادات لهم من دون الله -تعالى-: كالذبح، والنذر، والدعاء، والطواف، وغيرها؛ من أعظم المنكرات العقدية التي لا يشك عاقل أنها من أعظم أسباب محق البركة ونزول البلاء على البلاد والعباد.

وهو الأمر الذي تنبه له أعداء الإسلام فراحوا يدعمون مظاهر الشرك والبدع في المجتمعات الإسلامية لينخروا في كيان العقيدة الصافية، حاملين معاول الهدم لهذا الكيان الشامخ، وقد علموا أن هذا السبيل أيسر بكثير لغزو المسلمين واحتلالهم من مواجهتهم بالعدد والعدة!

ثم تأمل كيف أكَّد وهو على هذا الحال على توحيد الحاكمية، وإثبات الحكم لله -تعالى- وحده لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وإثبات أن ذلك من أعظم معاني التوحيد والعقيدة الصحيحة، فالحلال ما أحل الله والحرام ما حرّم الله، والدين ما شرع الله -تعالى-، وأنه ليس للبشر أن يشرعوا مع الله -تعالى-؛ لأن التشريع من خالص حقوق الرب -جل وعلا- القائل: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف:26)، والقائل: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) (الأعراف:54).

وتعْجب من إفراده -عليه السلام- الكلام عن توحيد الحاكمية ضمن الكلام عن معاني التوحيد؛ وكأنه تحذير للأمة المصرية خاصة وللناس عامة ألا ينازعوا الله -تعالى- في حاكميته، وفي حقه الخالص في التشريع.

وكأنِّي بها وصية خاصة لواضعي القوانين والدساتير أن يضمنوها مواد تحكيم الشريعة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا تأويل؛ حتى يسعد الجميع تحت ظلال حكم الشرع الحنيف.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة