الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (30) آيات من القرآن في ذم القسوة (8)

الشيطان يدخل إلى القلوب القاسية؛ ليُحسَّن لها واقعها الأليم المر الخبيث

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (30) آيات من القرآن في ذم القسوة (8)
ياسر برهامي
الأربعاء ٢٧ مايو ٢٠٢٠ - ٠٩:٥٤ ص
699

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (30) آيات من القرآن في ذم القسوة (8)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) (الأنعام:42-45).

الفائدة السادسة: أن الشيطان يدخل إلى القلوب القاسية؛ ليُحسَّن لها واقعها الأليم المر الخبيث؛ لكي يروا طريقتهم أحسن طريقة فلا يغيروها، ولا يتوبوا إلى الله -تعالى-، كما قال سحرة فرعون قبل إيمانهم: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) (طه:63)، مع أنها طريقة عذاب وشقاء في الدنيا والآخرة.

ولا أدري كيف كان يحتمل فرعون حاله وهو في هذا الكفر والكبر؛ الذي يجعل صاحبه في أتعس الأحوال، والحسد الذي يملأ قلبه لموسى -عليه السلام- كما ظهر من قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ . فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ . فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف:52-54)؟!

 ولا أدري كيف كان يحتمل قومه هذا الذل الفظيع والشقاء المريع، وهم يسمعون بشرًا مثلهم يقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (القصص:38)، وينفذون ويبنون الصرح، ويستمعون وهو يقول لهم: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات:24)، ويقرون ويسمعون ويطيعون، ويسفكون الدماء البريئة؛ حتى ذبحوا الأطفال واستحيوا النساء، وصلبوا السحرة بعشرات الآلاف في صبيحةٍ واحدةٍ! ومع ذلك يرون طريقتهم مُثْلَى؟!

وكذلك قول المشركين والكفار مِن كل أمة عن طريقتهم المنكرة كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الزخرف:23-24).

فوالله إن حياة أكثر العالم اليوم هي الشقاء بعينه، حين ابتعد الناس عن الإيمان بالله وتوحيده إلى الإلحاد والشرك والكفر، وتكذيب الأنبياء وإنكار الآخرة؛ مع أن المتع التي يظنون أنها تسعدهم مِن: مالٍ، وجنسٍ، ورياسة، وشهرة؛ لا بد أن تنتهي بالموت أو المرض أو زوال هذه النعم، قال الله -تعالى-: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ . ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ . مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) (الشعراء:205-207)، وليس هذا إلا مِن تزيين الشيطان لهم أعمالهم، وصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.

فلو نظرتَ إلى عُبَّاد البقر وهم يسجدون للبقرة، ويرتمون في طريقها لتدوس عليهم وتجرحهم؛ ليطلبوا البركة في ذلك، وما يحصل لهم إلا الألم والخيبة والخسران، ولو نظرت لمن يعبدون قردًا يركعون له ويسجدون، ويتمسحون للبركة، ثم يضربهم القرد على رؤوسهم وأقفيتهم!

ولو رأيت مَن يطلبون الغفران مِن أحبارهم ورهبانهم؛ فيركبهم ذلك الراهب كما تُركب الدواب، ويسير راكعًا على ركبتيه وقدميه ويديه، يطوف به مسافة معينة؛ ليُغْفَرَ له ذنبُه وخطيئتُه!

ولو رأيت أهل الألحاد وعمى بصيرتهم، وانعدام هدفهم بعد الموت؛ لعلمتَ أن كل هذا لا يمكن أن يتم إلا بتزيين الشيطان لهم ما كانوا يعملون؛ لكي لا يفيقوا مِن الغفلة عن سبب المحنة، والبأساء والضراء التي أصابتهم، فلا يقلعون عن كفرهم ومعاصيهم.

ولو نظرت إلى أهل الإسلام وهم يتابعون أهل الكفر في كثيرٍ مِن أعمالهم، وقد أصابهم ما أصاب غيرهم مِن المرض والوباء، ولا يزال الظلم فاشيًا، ولا تزال المعاصي والفجور مستمرة حتى في شهر رمضان، وهم يرون أنفسهم يحسنون صنعًا، ولا يفكرون إلا في الأسباب الظاهرة من العلاجات ودفع الوباء، والإجراءات الوقائية -مع أنه لم يندفع بها إلى الآن بل يزيد- أفلا نتفكر في التوبة والمراجعة بدلاً من تزيين الواقع المؤلم، الذي فيه مخالفة لشرع الله؛ حتى يرفع الله ما بنا.

الفائدة السابعة: إن نسبة التزيين إلى الشيطان هي نسبة فعل وكسب ووسوسة؛ وليست مِلْكًا للقلوب أو خلقًا للضلال فيها، فهو لا يملكه، قال الله -تعالى-: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر:42)، فهم الذين يسلمون أنفسهم ويستجيبون له، قال -تعالى-: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم:22)، وقال -تعالى-: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل: 98-100).

وأما ما ذكره الله في قوله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (الأنعام:108)؛ فهذا التزيين مِن الله الذي هو خلق الضلال في قلوبهم مِن خلال إرادتهم وعملهم، واختيارهم للباطل وحبهم للضلال، وإعراضهم عن الحق؛ فهذا فيه الإيمان بالقدر؛ وهي الدرجة الرابعة مِن درجات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي خلق الله لأفعال العباد وما يجعل في قلوبهم، وكذا الإغواء المذكور في قوله -تعالى- عن نوح -عليه السلام- في خطابه لقومه: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (هود:34).

وإن كان قد قال غير واحد مِن السلف: "يريد أن يغويكم: أن يهلككم"، ولا تعارض؛ فإن هلاكهم إنما كان بإغوائهم حتى اختاروا الكفر والشرك؛ فهلكوا -والعياذ بالله-.

وهو -سبحانه- رب العالمين يضع الأشياء في مواضعها، فهو أعلم بالظالمين، وهو -سبحانه- أعلم بالشاكرين؛ يضع البذر الطيب في الأرض الطيبة، وخَلقَ الإيمان في قلوب المؤمنين الطيبين، وجعل البذر الخبيث في الأرض الخبيثة، وخلق الكفر في قلوب مَن يستحقونه ومَن يناسبهم، ولم يظلمهم -سبحانه-؛ إذ قد جعل لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدةً، وعقولًا يدركون بها، وجعل لهم قدرة وإرادة بها تقع أفعالهم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ فبلغتهم الحجة، وزالت عنهم المعذرة.

اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، نعوذ بعزتك -لا إله إلا أنت- أن تضلنا؛ أنت الحي الذي لا تموت، والجن والإنس يموتون.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة