الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع قصة البقرة والذئب اللذين تكلما (موعظة الأسبوع)

بعض طلبة العلم ولا سيما في زمن الاتصالات الحديثة، أهملوا جانب الوعظ والتعبد

وقفات مع قصة البقرة والذئب اللذين تكلما (موعظة الأسبوع)
سعيد محمود
الأربعاء ٠٣ يونيو ٢٠٢٠ - ٢١:٠٣ م
902

وقفات مع قصة البقرة والذئب اللذين تكلما (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه وعموم أمته بالقصة الهادفة التي تنفعهم في دينهم ودنياهم: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: صَلَّى رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أقْبَلَ علَى النَّاسِ، فَقالَ: (بيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، فَقالَتْ: إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهذا، إنَّما خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ) فَقالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ، فَقالَ: فإنِّي أُومِنُ بهذا، أنَا وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وما هُما ثَمَّ، (وبيْنَما رَجُلٌ في غَنَمِهِ إذْ عَدَا الذِّئْبُ، فَذَهَبَ منها بشَاةٍ، فَطَلَبَ حتَّى كَأنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا منه، فَقالَ له الذِّئْبُ هذا: اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فمَن لَهَا يَومَ السَّبُعِ، يَومَ لا رَاعِيَ لَهَا غيرِي؟!)، فَقالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، قالَ: (فإنِّي أُومِنُ بهذا أنَا وأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ) وما هُما ثَمَّ. (متفق عليه).

- إشارة إلى الوقفات التالية حول القصة بعد شرح إجمالي للحديث.

(1) أهمية الوعظ في إصلاح القلوب:

- الوعظ في الجملة: هو الترغيب والترهيب بكل ما يحمل النفوس على الجد في الطاعات، واجتناب المنهيات: كالتذكير بالموت والقبور، والجنة والنار، وعلامات الساعة، وقيمة العمر، والتنفير من المحرمات، والترغيب في الطاعات.

- أهمية الوعظ لا سيما بعد صلاة الفجر: ففي القصة، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "صَلَّى رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أقْبَلَ علَى النَّاسِ، فَقالَ: ... ).

- أثر الوعظ على القلوب: ففي حديث حنظلة قال: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنْ لو تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي، وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).

- الوعظ بشقيه: (الترغيب والترهيب) يصلح القلوب، فيظهر أثر ذلك على الجوارح: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ ) (رواه مسلم).

- بعض طلبة العلم ولا سيما في زمن الاتصالات الحديثة، أهملوا جانب الوعظ والتعبد؛ بسبب كثرة الجدل والتنظير في العلوم الكلامية، فكان الخلل في التربية والمنهجية؛ فأدَّى إلى التقصير في جوانب كثيرة، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبتواضعه إذ الناس يختالون، وبحزنه إذ الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون" (رواه الآجري في كتاب أخلاق أهل القرآن)، وعنه -رضي الله عنه- قال: "ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية" (الدر المنثور).

(2) بيان عظيم قدرة الله في خلقه:

- النبي -صلى الله عليه وسلم- من خلال القصة، يبين لهم عظيم قدرة الله في خلقه، بمثال جريان بعض الأمور على غير المألوف، ففي القصة: "فَقالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ"، وفيها: "فَقالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ".

- في خلق الله وقدرته صور كثيرة من كلام الحيوان للإنسان بلغته، وكلام الإنسان للحيوان بلغته، والله على كل شيء قدير: قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) (النمل:18-19)، وقال: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإ يَقِينٍ) (النمل:22)، وعن عبد الله بن جعفر قال: دخل النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حائطًا لرجلٍ من الأنصارِ فإذا فيه جملٌ فلمَّا رأَى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حنَّ وذرِفت عيناه فأتاه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-فمسَح ذِفراه فسكت، فقال: من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟ فجاء فتًى من الأنصارِ فقال: لي يا رسولَ اللهِ، فقال: (أفلا تتَّقي اللهَ في هذه البهيمةِ الَّتي ملَّكك اللهُ إيَّاها؛ فإنَّه شكَى إليَّ أنَّك تُجيعُه وتُدئِبُه) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

- نحن نؤمن بكل ذلك مع غرابته، تصديقًا لخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، وإيمانًا بقدرة الله على ما هو أعظم: قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (فصلت:20-21)، وعن أنس قال: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- فَضَحِكَ، فَقالَ: (هلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟) قالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: (مِن مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ يقولُ: يا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يقولُ: بَلَى، قالَ: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجِيزُ علَى نَفْسِي إلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قالَ: فيَقولُ: كَفَى بنَفْسِكَ اليومَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فيُخْتَمُ علَى فِيهِ، فيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمَالِهِ، قالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بيْنَهُ وبيْنَ الكَلَامِ، قالَ فيَقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ) (رواه مسلم).

(3) لكل مخلوق وظيفة:

- جعل الله لكل مخلوق وظيفة، وهداه إلى القيام بها: قال -تعالى-: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طة:50)، وفي القصة: (فَقالَتْ: إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهذا، إنَّما خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ)(1).

- من نعمة الله على الإنسان أن سخَّر له كثيرًا من المخلوقات التي هي أقوى منه، بأنواعٍ مِن التسخير: قال -تعالى-: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ . وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ . وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ . وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل:5-9)، وقال: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) (الزخرف:13-14).

- أفضل وظيفة لمخلوق هي العبودية، والتي يصير بغيرها الانسان كالبهائم أو أشر(2): قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، وقال -تعالى-: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (الفرقان:44)، (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) (النبأ:40).

- ينبغي على العبد أن يسعى للترقي في وظيفته الأساسية، ولا يرضى فيها بالدون، كما أنه لا يرضى بالدون في وظيفة الدنيا(3): قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162).

(4) نبذة في فضل الصاحبين -رضي الله عنهما-:

- النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبر في القصة عن عظيم إيمانهما، وقوة يقينهما: قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَقالَ: فإنِّي أُومِنُ بهذا، أنَا وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ -وما هُما ثَمَّ-!).

- ذكر موقف لكل واحد منهما في قوة اليقين وصدق الإيمان وقوته: "لما كانت رحلة الإسراء والمعراج جاء المشركون إلى أبي بكر، فقالوا له: إن صاحبك يزعم أنه أسري به إلى المسجد الأقصى في الليلة الماضية، ونحن نقطع أكباد الإبل إليها في شهر كامل، فقال أبو بكر: إن كان قال فقد صدق"، وفي رواية قال: "إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية، أفلا أصدقه في بيت المقدس" (البداية والنهاية لابن كثير).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي) (رواه مسلم)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال عمر -رضي الله عنه-: وافَقْتُ رَبِّي في ثَلَاثٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وآيَةُ الحِجَابِ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لو أمَرْتَ نِسَاءَكَ أنْ يَحْتَجِبْنَ، فإنَّه يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ والفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ، واجْتَمع نِسَاءُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الغَيْرَةِ عليه، فَقُلتُ لهنَّ: (عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبَدِّلَهُ أزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) (التحريم:5)، فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ (رواه البخاري).

- صدق الصحبة في الله، جمعهما مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أحياءً وأمواتًا: (أبو بكر يموت على نفس العمر في نفس اليوم، وعمر يلحق بهما في قبورهما، ليبعثوا جميعًا مِن موضعٍ واحدٍ).

(5) خاتمة:

- يجب على المسلم أن يصدِّق بكل ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا فرق في ذلك بين المتواتر والآحاد.

- هكذا القصة في القرآن والسُّنة، لها أهداف نبيلة وعظيمة، بخلاف قصص الناس.

نفعنا الله وإياكم بالقرآن والسنة، والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قول البقرة ليس على إطلاقه؛ وإلا فالاتفاق على أنها تؤكل وتحلب، وهذا تخصيص لعموم: (إنَّما خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ).

(2) فالذين غيروا وظيفة العبودية، وتمردوا على خالقهم، يعيشون حياة شهوتي البطن والفرج، وهي حياة الحيوان والدواب.

(3) كثير مِن الناس يرضى من العبودية بالأركان فقط، ويهمل بقية الدين وتعاليمه، في الوقت الذي لا يرضى كل الناس بأن يعيشوا في بيت بأعمدة لا جدران له، ولا مرافق، ولا أثاث!

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة