الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

العلمانية

هدف الدولة العلمانية في فصلها عن السلطة الدينية هو اتقاء الاصطدام معها

العلمانية
طلعت مرزوق
الأحد ٠٧ يونيو ٢٠٢٠ - ٢٣:١٤ م
796

العلمانية

كتبه/ طلعت مرزوق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالعلمانية: حل مستورد مِن الغرب، لمشكلة عربية إسلامية في أوهام العلمانيين العرب، لا في الواقع، ولو كان الإسلام يحكم أوروبا ما ظهرت العلمانية عندهم أصلًا.

مفهوم العلمانية:

تُنسب العلمانية -على غير قياس- إلى العالم، أو العالمية Secularism، وهي نظام مِن المبادئ، والتطبيقات، يرفض دخول كل صورة مِن صور الإيمان الديني، والعبادة الدينية في أعمال الدولة، وبالأخص في التعليم العام.

والتحول إلى العلمانية هو التحول مِن الملكية الدينية إلى الملكية المدنية، وهو التخلص مِن سلطة الدين.

والعلماني Secular هو: ما يتعلق بالحياة الدنيوية المؤقتة، وليست له قداسة، مقابل الشئون الكنسية.

ثنائية المجتمع الأوروبي:

كانت الكنيسة صاحبة السلطة المسيطرة طوال القرون الوسطى في أوروبا، حتى ابتدأ الإنسان الأوروبي يكشف مجال البحث الطبيعي، ويستقل يومًا بعد يومٍ عن الكنيسة.

وتميز المجتمع الأوروبي في القرن السابع عشر الميلادي بثنائية الدولة والكنيسة، المدني غير المقدس، والديني المقدس، فهنا دولة لها سلطة، وتريد أن تتوسع في سلطتها، وهناك كنيسة لها سلطة، وتريد أن تحافظ -على الأقل- على سلطتها في مواجهة الدولة.

فهذه الإشكالية "السلطة والصراع عليها" لا تبرز إلا وقت تخاصم الطرفين، وامتناع أي منهما عن الخضوع للآخر، لسببٍ مِن الأسباب.

تصور توزيع الاختصاصات:

رأى بعض المفكرين أن حل مشكلة تنازع السلطة بين الدولة والكنيسة يجب أن يكون في توزيع السلطة وتقسيمها بين الطرفين، فتكون الشئون السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والتشريعية -بما لا يمس الكنيسة- للدولة، وتكون للكنيسة شئون الأسرة في مراسم الزواج، وطقوس الوفاة، ونظام الرهبنة والإكليروس "النظام الكهنوتي".

وهذا التقسيم أو الفصل بين السلطتين أخذ اسم "العلمانية".

مراحل العلمانية في التفكير الأوروبي:

مرت العلمانية في التفكير الأوروبي بمرحلتين:

المرحلة الأولى: مرحلة العلمانية المعتدلة، وهي مرحلة القرنين: السابع عشر، والثامن عشر.

المرحلة الثانية: مرحلة العلمانية المتطرفة، وهي مرحلة القرن التاسع عشر، وقد بلغت قمتها في التطرف في الفكر المادي التاريخي.

مرحلة العلمانية المعتدلة:

في هذه المرحلة وإن اعتُبِر فيها الدين أمرًا شخصيًّا، لا شأن للدولة فيه، فإن على الدولة مع ذلك أن تحمي الكنيسة، وبالأخص في جباية ضرائبها.

وإن طالب الفكر العلماني في هذه المرحلة بتأكيد الفصل بين الدولة والكنيسة، فإنه لا يسلب المسيحية كدين مِن كل قيمة لها.

وهدف الدولة العلمانية في فصلها عن السلطة الدينية هو اتقاء الاصطدام معها، وليس محاولة تخريب قيمتها الدينية، ولا محاولة الاعتراض على ما تراه السلطة الدينية مِن واجبات وطقوس وشعائر.

وحتى رجال الدولة أنفسهم في ممارستهم السياسة العامة للمجتمع يخضعون في ظروفٍ معينةٍ لملائمة أنفسهم مع تقاليد الكنيسة (وعلى سبيل المثال: دوق أوف وندسور، وأنتوني إيدن، في إنجلترا، اضطرا لترك الوظيفة العامة أو عدم السعي إليها؛ لأن سلوك كل منهما في حياته الزوجية لا يتفق مع ما تراه الكنيسة مِن تقاليد في الزواج. والجنرال ديجول في فرنسا أقال وزير التربية الاشتراكي في وزارته الأولى، بعد أن عاد للحكم في المرة الثانية؛ بسبب عدم موافقة الوزير على مساعدة المدارس الدينية في فرنسا).

ومِن فلاسفة هذه المرحلة المعتدلة للعلمانية في التفكير الأوروبي:

- الفيلسوف الإنجليزي لوك LOKE (1632 - 1704).

- والفيلسوف الإنجليزي هوبز HOBBES (1588 - 1679).

- والفيلسوف الفرنسي روسو JEAN JACQUES ROUSSEAU (1712 - 1778).

دوافع الفصل بين الدين والدولة في هذه المرحلة:

- الحرص على سيادة الدولة سيادة مطلقة في مواجهة سلطة الكنيسة، ووصايتها السابقة في القرون الوسطى على الإنسان (كما هو واضح عند هوبز HOBBES).

- اتهام المسيحية بِبُعد بعض تعاليمها عن العقل، كعقيدة التثليث، والطبيعة الإلهية الإنسانية للمسيح (كما في فلسفة لوك LOKE، والفيلسوف الألماني ليبنيز LEIBNIZ 1646 – 1716)، ومحاولتهما -مع آخرين- لتصفية المسيحية على أساس مِن منطق العقل -كما يدعيان!- وتسمية ما يخضع للعقل باسم: "دين العقل".

- النظر إلى الدين في التربية على أنه ضد "الطبيعة" كما في نظرة روسو JEAN JACQUES ROUSSEAU إليه، بناءً على تعاليم المسيحية "بالخطيئة الموروثة" .

- اعتبار الدين أمرًا متطورًا وليس بنهائي، كما يراه الفيلسوف الألماني LESSING 1729 - 1781، وبالتالي حقائقه حقائق متغيرة، وقابلة للنقض.

مرحلة العلمانية المتطرفة:

وهي مرحلة العهد المادي، أو ما يُسمَّى: "بالثورة العلمانية" مرحلة الجناح اليساري مِن مدرسة الفيلسوف الألماني هيجل HEGEL 1770 – 1831 في القرن التاسع عشر الميلادي.

وفي هذه المرحلة نرى:

أولًا: أن علمانية الفيلسوف الألماني فيرباخ FEUERBACH 1804 – 1872، تتمثل في مذهبه الإنساني الإلحادي، وهي: إلغاء الدين، أي دين، وليست فصلًا بينه وبين الدولة، وإحلال "الإنسان العام - جماعة العمل" محل الله -تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا- في العبادة.

ثانيًا: أن علمانية الفيلسوف الألماني كارل ماركس KARL MARX 1818 – 1883، تتمثل في المادية التاريخية الإلحادية، وهي هدم الدين كمقدمة ضرورية لقيام عالم يكون فيه الإنسان سيد نفسه، وتنتهي سيادة الإنسان إلى سيادة المجتمع والدولة، ووضعهما بالنسبة للأفراد هو وضع المعبود الخالق مِن الأفراد المخلوقين -تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا-.

وتتلخص المبادئ الماركسية فيما يلي:

المادية التاريخية الاستنتاجية مِن الوجهة الفكرية والنظرية.

الإلحاد، واستخدام المنهج العلمي في تحقيقه.

صراع الطبقات للوصول لمجتمع لا طبقي.

وتتبع هذه المبادئ موضوعات أخرى في الاقتصاد، أهمها: ما جاء بكتاب "رأس المال" فيما يخص "فائض القيمة" الذي هو الفرق بين ما يُدفع للعامل مِن رجل الصناعة، وما تُباع به السلعة المُصنعة في السوق.

ويُسمي ماركس أجر العامل "بالقيمة الخادعة"، ويرى أن الرأسمالي يستغل العمال، ما سيؤدي إلى الإكراه على نزع الملكية الخاصة مِن الرأسماليين، وتذويب هذه الفوارق للوصول إلى المجتمع اللاطبقي.

ثالثا: أن علمانية السياسي الروسي فلاديمير لينين LENIN 1870 – 1924، ينتهي أمرها إلى إلغاء المسيحية كدين، ووضع "البلشفية" -أي: الماركسية اللينينية- كدينٍ جديدٍ بدلًا منها.

وهذا الدين الجديد يجب أن يكون في خدمة الواقع الذي هو "الحزب" ، والحزب يأخذ في هذا الدين الجديد مكان "العبادة" عِوضًا عن "الله" في المسيحية -تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا-، ومكان القداسة عوضًا عن الكنيسة.

أهم خصائص الفكر الفلسفي العلماني في أوروبا:

- أن دافع العلمانية في القرنين: السابع عشر، والثامن عشر، كان هو التنازع على السلطة بين الدولة والكنيسة؛ ولذا كان الفصل بين السلطتين هو الحل الفلسفي، أو الرسمي لهذا التنازع.

- أن الدافع إلى العلمانية في القرن التاسع عشر، أو فيما يُسمَّى بين اليسار الثوري أو المتطرف في مدرسة هيجل، هو الاستئثار بالسلطة؛ ولذا كانت العلمانية غير مساوية لمفهوم الفصل بين الدولة والكنيسة، بل كانت إلغاء الثنائية بهدم الدين كمقدمة ضرورية للوصول إلى السلطة المنفردة التي هي سلطة "جماعة العمل" أو "المجتمع" أو "الدولة" أو "الحزب" حسب تحديد بعض هؤلاء اليساريين المتطرفين.

- أن البحوث الطبيعية والتقدم العلمي بالتدريج منذ نهاية القرون الوسطى هي التي جرأت أرباب هذا الفكر العلماني على الخروج على وصاية الكنيسة، وعلى الاستقلال في النشاط الإنساني وحركة المجتمع عن أي رأي يصدر منها.

- أن الفكر الفلسفي العلماني في مرحلتيه لم يسلم في أوروبا مِن مواجهة فكر فلسقي آخر مُعارض، فقد قامت مدرسة كمبردج بمعارضة هوبز HOBBES؛ أشد المفكرين صلابة ضد الكنيسة في مرحلة العلمانية الأولى.

كما قام كثير في المرحلة الثانية منها بمعارضة المادية عند فيرباخ FEUERBACH، والمادية التاريخية عند كارل ماركس KARL MARX، وبنقض الأسس الفلسفية التي تبناها الاتجاه المادي المعاصر، سواء أكانت أسسًا تنتهي إلى دائرة البحث الطبيعي، أو إلى دائرة الاقتصاد.

وأبرز المعارضين لهذا الاتجاه المادي: كتلة المنشقين اليساريين مِن أتباع الألماني برنشتين EDUARD BERNSTEIN الذين لُقِبوا مِن أعدائهم اليساريين بالمرتدين.

ثم ما قام به في القرن العشرين مِن معارضة الفيلسوف الاجتماعي الألماني ماكسيمليان فيبر WEBER لأساس الاقتصاد بصفة خاصة، وبلغ مِن تأثير ما نالته المعارضة مِن هذا الاتجاه المادي أن أصبح يوصف في الفكر الأوروبي نفسه بالثورية دون أن يوصف بالفلسفي؛ الأمر الذي يدل على أنه يعبِّر عن عاطفة وحماس أكثر منه تعبيرًا عن فكرة وتأمل.

- أن الموطن الذي وُلِد فيه الفكر العلماني في مرحلتيه وهو إنجلترا وفرنسا وألمانيا، لم يأخذ بالاتجاه العلماني في التطبيق في الحياة العملية؛ فالتاج البريطاني لم يزل حاميًا للبروتستانت، وفرنسا لم تزل حامية الكاثوليكية في صورة عملية، والدولة في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا -رغم إعلان أنها دول علمانية- تساعد المدارس الدينية مِن ضرائبها الخاصة التي تجبيها مِن المواطنين، مع علمها باستقلال هذه المدارس في برامجها التعليمية، وبعدها عما تجريه الدولة مِن تفتيش على النفقات التي تنفقها.

والجانب الآخر الذي يتبنى البلشفية كدين وكسياسة بدل المسيحية في أوروبا الشرقية، لم يأخذ منذ الستينيات بسياسة التعايش السلمي فقط مع الرأسمالية الغربية، وإنما يأخذ كذلك بسياسة حُسن العلاقات مع دولة الفاتيكان.

            موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً