الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (3)

الهجرة وإن كانت شاقة على النفوس إلا أن فضلها وأجرها يهون ذلك على المهاجر

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (3)
سعيد محمود
الأربعاء ١٠ يونيو ٢٠٢٠ - ١٥:٤٢ م
445

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (3)

وقفة دعوية: فضل الهجرة في سبيل الله

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن فتية أصحاب الكهف ضربوا أروع المثل في هذه القضية؛ قضية الهجرة في سبيل الله -عز وجل- كما هو ظاهر، فإن محور القصة الرئيس هو الإشارة إلى الهجرة من أرض الكفر الى أرض الإسلام، وهي تحمل إشارة -كما تقدم- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أن يستعدوا للهجرة، وأن الله -عز وجل- سينجيهم كما نجَّى أصحاب الكهف.

ولقد ضرب الفتية كذلك أروع المثل في بيان أن قضية المسلم في هذه الحياة الدنيا هي قضية العبودية، وأن الأوطان، والأهل والخلان، والأموال، قضية تأتي تبعًا لذلك؛ فالمسلم يعبد الله -عز وجل- في أي مكان، وهو غير مقيد بالأوطان؛ لا سيما إذا كانت الأوطان والأهل والخلان، يأخذونه الى غير دين الله -عز وجل-: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ . كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت:56-57).

والهجرة وإن كانت شاقة على النفوس إلا أن فضلها وأجرها يهون ذلك على المهاجر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).

يتسلط الشيطان على الإنسان الذى يريد الهجرة ويقول له: تترك الوطن؟ وتترك العيال؟! تترك الأهل؟ تترك العشيرة؟! تترك مراتع الصبي التي عشت فيها؟! تترك كل هذا ثم تذهب الى مصير مجهول لا تدري ماذا سيكون؟! ثم أنتَ إذا نزلت بأرضٍ فأنت فيها غريب، أنت فيها مقيد كما هو الفرس في الطول -والطول هو الحبل يقيد به الفرس-؛ فهو لا يتحرك إلا في هذا الحد، لا يقدر على أن يسترسل؛ فكذلك أنت أيها المهاجر غريب مقيد، قليل الحركة، خائف على الدوام!

ولذلك لما جاء رجل الى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الهجرة، قال: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ) (متفق عليه)؛ لأن المسلم يُظهِر فيها إعلانًا صريحًا لكل مَن خالف أمر الله -عز وجل- بالمفاصلة، ولو كانوا أقرب الناس إليه، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:23-24).

ولذلك لا يجوز لمسلم أن يبقى في أرضٍ هو فيها مستضعف يُفتن في دينه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، بخلاف ما نراه ونسمع عنه في هذا الزمان مِن حال كثيرٍ ممَن جهل هذه القضية العظيمة، فصاروا يتنافسون في الهجرة من أرض الإسلام الى أرض الكفار، ويسمون ذلك بأسماء رنانة: (الطيور المهاجرة! - الهجرة الشرعية! - ... )، ونحو ذلك، ولا هجرة شرعية إلا الهجرة من أرض الكفر الى أرض الإسلام؛ هذه هي الهجرة الشرعية، أما الاستثناء وهو أن يعيش في بلاد الكفر لأمرٍ استثنائي، مع شرط حفظ دينه؛ فهذه مسألة لا بد فيها من الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عن كل حركة وسكنة لأجل ذلك.

فلا يجوز لمسلمٍ أن يقرر العيش في بلاد الكفر دون أن يرجع إلى العلماء ليقرروا له: هل بقاؤه هذا مِن النوع الجائز أم من النوع الممنوع؟ وهل يُحاسَب على بقائه في بلاد الكفر مستضعفًا ويُعاقَب على ذلك عند الله -عز وجل- إذا كان قادرًا على أن يعيش في بلاد المسلمين، أم لا؟ قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:97).

فالذين بقوا في مكة بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن المسلمين وآثروا البقاء مع أهليهم وعيالهم وأموالهم، وهم قادرون على الهجرة؛ حكم الله عليهم بذلك: (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)؛ لأنهم عاشوا في أرض الكفر وعاشوا مع الكفار، مع قدرتهم على الهجرة من هذه البلاد التي يفتن فيها المسلم في دينه.

ونعود للقصة: فإن الفتية قد ضربوا لنا مثالًا رائعًا في أمر الهجرة في سبيل الله -عز وجل-، فقد هجروا الأوطان، والأهل والخلان، والأموال مِن أجل الله -عز وجل-.

وللحديث بقية في وقفاتٍ مقبلةٍ -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة