الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

فعلم ما في قلوبكم

بيَّن الحق -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم أن الراسخين في العلم يسألونه ويدعونه أن يثبِّت قلوبهم، وألا يزيغها بعد أن هداهم للإيمان

فعلم ما في قلوبكم
أحمد مسعود الفقي
الأربعاء ١٥ يوليو ٢٠٢٠ - ١٧:٣٩ م
629

فعلم ما في قلوبكم

كتبه/ أحمد مسعود الفقي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه-: "إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَاشْغَلُوهَا بِالْقُرْآنِ، وَلا تَشْغَلُوهَا بِغَيْرِهِ" (مصنف ابن أبي شيبة).

لما علم الله ما في قلوب المؤمنين الراسخين في الإِيمان، الأقوياء فيه، وهم أهل بيعة الرضوان، من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصدق والوفاء، أنزل عليهم الطمأنينة، والثبات على ما هم عليه، ومنحهم فتحًا قريبًا، وهو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة، قال -تعالى- في سورة الفتح: (لقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح:18).

وكذلك لما علم ما في قلوب المنافقين من الكفر والنفاق، وما انطوت عليه صدورهم من الشر والفساد، والصد عن سبيل الله، أمر النبيَ -صلى الله عليه وسلم- أن يعرض عنهم فلا يعاقبهم، ولكن يعظهم بتخويفه إياهم بأسَ اللهِ أن يحل بهم، ويحذرهم من مكروه ما هم عليه من الشك في أَمْر الله وأمر رسوله، ويأمرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده، قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) (النساء:63).

ورزق الله يأتي مع أخذ السبب بناءً على ما في القلوب، لمَّا جاء العباس إلى رسول الله وكان في الأسر، وقال: يا رسول الله، والله إني كنت مسلمًا فرد عليّ الفدية التي أخذتَها منِّي، فنزل: قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ في أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنفال:70)، فانظر كيف جعل الله -تعالى- صلاح قلوبهم، سببًا لفكاكهم من الأسر، ومنحهم من خيري الدنيا والآخرة ما هو خير وأعظم مما بذلوه من الفداء؟! بل وأعظم من ذلك كله أن يغفر لهم ما فرط منهم من الذنوب، فالأجر مرتب على الخير الذي في القلوب، والعذاب كذلك مرتب على الشر الذي في القلوب، وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، فإذا صلحت القلوب بالتقوى والإيمان، صلح الجسد كله بالطاعة والإذعان.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "القوم إذا صلحت قلوبهم فلم يبقَ فيها إرادة لغير الله -عز وجل-، صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله -عز وجل-، وبما فيه رضاه".

وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) (متفق عليه)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَسْتَقِيم إيمانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيم قَلْبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ) (رواه أحمد بسندٍ حسنٍ).

والمراد باستقامة إيمانه: استقامة أعمالِ جوارحه، وأعمالَ الجوارحِ لا تستقيمُ إلاَّ باستقامةِ القلبِ، ومعنى استقامة القلبِ: أنْ يكونَ ممتلئًا منْ محبَّةِ الله، وأصل الاستقامة: استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على التوحيد استقامت الجوارح كلها.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُم) (رواه مسلم).

فقد يكون كثيرٌ ممن له صورة حسنة، أو مال، أو جاه، أو رياسة في الدنيا، لكنَّ قلبَه خرابٌ من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوءًا من التقوى، فيكون أكرمَ عند الله -تعالى-، بل ذلك هو الأكثر وقوعًا، كما في "الصحيحين" عن حارثةَ بن وهبٍ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ) ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ) (متفق عليه).

ولذلك لا يقي العبدَ من عذابِ الله مالُه، ولو افتدى بملءِ الأرض ذهبًا، ولا بنوه وإن كانوا في غاية القوة، بل لا ينفع إلا أن يأتي بقلب سليم، وهو القلب الذي سلم من مرض الكفر والنفاق، فقال -تعالى-: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88-89).

وأعدَّ الله الجنة وقرَّبها وأدناها من المتقين، الذين اتقوا الشرك والمعاصي، وأخلصوا لله وأقبلوا عليه بقلوب مخبتة منيبة، قال -تعالى-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ . هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ . ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ . لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (ق:31-35).

والقلوب بيد الله -تعالى- يقلبها كيف يشاء، ويصرفها حيث يشاء، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: (اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) (رواه مسلم)، وفي مسند أحمد من رواية النواس بن سمعان: (إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ).

وأنشد بعضهم في هذا المعنى:

مـا سـمـي الـقــلـب إلا مــن تـقـلــبه                فاحذر على القلب من قلب وتحويل

وبيَّن الحق -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم أن الراسخين في العلم يسألونه ويدعونه أن يثبِّت قلوبهم، وألا يزيغها بعد أن هداهم للإيمان، فقال -تعالى-: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8).

نسأله -سبحانه- أن يثبت قلوبنا على دينه، ويصرفها إلى طاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً