الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (42) آيات من القرآن في ذم القسوة (20)

علاج القسوة في الوحي المُنزل الذي هو أحسن الحديث وخير الكلام كلام الله، وهو شفاء لما في الصدور

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (42) آيات من القرآن في ذم القسوة (20)
ياسر برهامي
الخميس ٠٣ سبتمبر ٢٠٢٠ - ١٨:٣٠ م
612

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (42) آيات من القرآن في ذم القسوة (20)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:22-23).

الفائدة الرابعة:

لما ذكر الله حال المؤمنين مِن انشراح الصدر وحصول النور مِن الله، وذمَّ أهل الضلال قساة القلوب الذين لا تلين قلوبهم لذكره، بل ربما زادهم الذكر والآيات قسوة وطغيانًا وكفرًا (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (المائدة:68)؛ ذكر -سبحانه- في الآية بعدها أسباب تحصيل انشراح الصدر وحصول النور، وزوال القسوة والضلال حتى يحصل اللين والهدى، فقال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).

فذكر أن علاج القسوة في الوحي المُنزل الذي هو أحسن الحديث وخير الكلام كلام الله، وهو شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وهو فضل الله ورحمته: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58)، وهو كتاب مؤتلف متوافق غير مختلف يشبه بعضه بعضًا (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء:82).

وأرشد -سبحانه- إلى أن تكرار ذكر المواعظ والأوامر والقَصص والتذكير فيه سببٌ للتأثير في القلوب فقال: (مَثَانِيَ)، وقد قدمنا تفسير المثاني، والأقرب فيه: أنه بمعنى التكرار في الآيات، فما يذكر في هذه السورة يذكر مثله في سورة أخرى، وإن كان لكل موضع فائدته وإشارته.

وهناك معنى آخر ذكره العلماء لمعنى "المثاني" والتكرار في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87)، والثابت في الحديث الصحيح في تفسيرها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها فاتحة الكتاب كما روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى قال: مَرَّ بيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأَنا أُصَلِّي، فَدَعانِي فَلَمْ آتِهِ حتّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أتَيْتُ، فَقالَ: ما مَنَعَكَ أنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَقالَ: (ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال:24)، ثُمَّ قالَ: (ألا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ أخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ) فَذَهَبَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِيَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ فَذَكَّرْتُهُ، فَقالَ: (الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ المَثانِي، والقُرْآنُ العَظِيمُ الذي أُوتِيتُهُ).

وروى البخاري أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أُمُّ القُرْآنِ هي السَّبْعُ المَثانِي والقُرْآنُ العَظِيمُ).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم... قال قتادة في الآية: ذُكر لنا أنهن فاتحة الكتاب، وأنهن يُثَنَّين في كل قراءة -أي: يكررن-. وفي رواية: في كل ركعة مكتوبة أو تطوع".

وقال أيضًا: "وهذا قول إبراهيم النخعي، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وابن أبي مليكة، وشهر بن حوشب، والحسن البصري، ومجاهد، واختاره ابن جرير.

والمقصود من ذلك: مشروعية تكرار الآيات والسورة وتثنية قراءتها؛ وذلك لشدة حاجة القلب لما فيها من المعاني؛ فتكرار قراءتها أعظم تأثيرًا في إصلاح القلب وتليينه وذهاب قسوته وظلمته، وهذا مشروع في الفاتحة اتفاقًا في كل ركعة، والصحيح، بل الصواب أنه واجب في كل ركعة فرضًا أو نفلًا، لا تصح الصلاة إلا بها، ولا تصح أي ركعة من ركعات الصلاة إلا بقراءتها؛ إمامًا كان الإنسان أو مأمومًا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما وجد الصحابة يقرأون خلفه: (لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خلفَ إِمامِكُمْ؟) قُلْنا: نَعَمْ، قال: (فلا تَفْعَلوا إِلّا بفاتحةِ الكتابِ، فإنَّهُ لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرأْ بِهَا) (رواه أبو داود)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، فَهِيَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ) (رواه مسلم، وأبو داود واللفظ له).

وأما تكرار آيات غيرها أثناء القراءة في الصلاة وفي غير الصلاة أيضًا حتى تستقر معانيها في القلب، ويتدبرها ويستخرج كنوزها بما يفتح الله على القلب من ذلك؛ فهذا أمر ثابت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118)، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ، تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا قَالَ: (إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا).

ورَوى أحمد أيضًا من طريق أخرى عن جسرة بنت دجاجة: أنها انطلقت معتمرة فانتهت إلى الرَّبَذة، فسمعت أبا ذر يقول: قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَصَلَّى بِالْقَوْمِ، ثُمَّ تَخَلَّفَ أَصْحَابٌ لَهُ يُصَلُّونَ، فَلَمَّا رَأَى قِيَامَهُمْ وَتَخَلُّفَهُمْ انْصَرَفَ إِلَى رَحْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمَ قَدْ أَخْلَوْا الْمَكَانَ، رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ فَصَلَّى، فَجِئْتُ فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَمِينِهِ فَقُمْتُ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَامَ خَلْفِي وَخَلْفَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِشِمَالِهِ، فَقَامَ عَنْ شِمَالِهِ، فَقُمْنَا ثَلَاثَتُنَا يُصَلِّي كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا بِنَفْسِهِ، وَيَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْلُوَ، فَقَامَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُرَدِّدُهَا حَتَّى صَلَّى الْغَدَاةَ، فَبَعْدَ أَنْ أَصْبَحْنَا أَوْمَأْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنْ سَلْهُ مَا أَرَادَ إِلَى مَا صَنَعَ الْبَارِحَةَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِهِ: لَا أَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يُحَدِّثَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قُمْتَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَعَكَ الْقُرْآنُ؟ لَوْ فَعَلَ هَذَا بَعْضُنَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ قَالَ: (دَعَوْتُ لِأُمَّتِي) قَالَ: فَمَاذَا أُجِبْتَ، أَوْ مَاذَا رُدَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: (أُجِبْتُ بِالَّذِي لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ طَلْعَةً تَرَكُوا الصَّلَاةَ) قَالَ: أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: (بَلَى). فَانْطَلَقْتُ مُعْنِقًا قَرِيبًا مِنْ قَذْفَةٍ بِحَجَرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ إِنْ تَبْعَثْ إِلَى النَّاسِ بِهَذَا نَكَلُوا عَنِ الْعِبَادَةِ. فَنَادَاهُ: أَنِ ارْجَعْ، فَرَجَعَ. وَتِلْكَ الْآيَةُ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118).

وقد فعل مثل هذا بعض الصحابة، فالصحابي الذي كان يقرأ: "قل هو الله أحد" في كل ركعة بعد السورة التي يقرأ بها، وفي رواية "قبلها" -والحديث في الصحيح-، وسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) (متفق عليه). وفي رواية: (إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وهذا يبيِّن لنا سببًا عظيمًا مِن أسباب تأثر القلب بالقرآن، وهو: التكرار لمعناه في سورٍ عديدةٍ، وتكرار التلاوة للآية الواحدة والسورة الواحدة في الصلاة وفي غيرها؛ حتى يحصل الأثر الذي ذكره الله في هذه الآية الكريمة، وقد ذَكر هنا  أثرين: أثر في البدن، وأثر في القلب؛ فأما أثر البدن فاقشعرار الجلد، ثم لينه بعد ذلك، وأما أثر القلب هو الخشية، ثم اللين وزوال القسوة بذكر الله -تعالى-، وذلك بأن يلين القلب فيتشكل في أقواله وعقائده، وأعماله وأحواله وفق الوحي المنزل؛ بخلاف القلب القاسي الذي لا يتغير ولا يتأثر، ويظل على حاله السابقة لا يتهذب بالقرآن.

أما المؤمن الذي يخشى الله فيلين قلبه لذكره، ويُصْبَغ بصبغة الله لقلبه وبدنه؛ حتى يوافق الوحي المنزل صبغة الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138).

وقد ذكر -سبحانه- القرآن في سورة المائدة أثرين أيضًا: أثر في البدن، وأثر في القلب، فقال -تعالى-: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:82-83).

ولنا في هذا استكمال -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة