الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (45) آيات من القرآن في ذم القسوة (23)

الخشوع الانقياد للحق، وهذا مِن موجبات الخشوع؛ فمن علاماته أن العبد إذا خُولف ورُدَّ عليه بالحق؛ استقبل ذلك بالقبول والانقياد

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (45) آيات من القرآن في ذم القسوة (23)
ياسر برهامي
الخميس ٢٤ سبتمبر ٢٠٢٠ - ١٧:٤٩ م
451

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (45) آيات من القرآن في ذم القسوة (23)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:16-17).

هذه الآية كان لها شأن عند السلف، كما كان لها شأن عند الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد كان سماعها سببًا لهداية عددٍ مِن أكابر العلماء والزهَّاد.

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "وذكر ابن المبارك بسنده عن مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى -عليه السلام- قال لقومه: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله -تعالى- فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها -أو قال: في ذنوبكم- كأنكم عبيد؛ فإنما الناس رجلان: معافَى ومبتلى؛ فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية".

وهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك -رحمهما الله تعالى-؛ ذكر أبو المطرف عبد الرحمن بن مروان القلانسي بسنده عن الحسن بن داهر، قال: سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده، قال: كنتُ يومًا مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنتُ مولعًا بضرب العود والطنبور، فقمتُ في بعض الليل فضربت بصوتٍ يقال له: رَاشِينَ السَّحَر (نغمة تسمَّى كذلك)، وأراد سِنَانٌ يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان -يعني العود الذي بيده- ويقول: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت مَن كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري.

وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود:

أَلَمْ يَأْنِ لِي مِنْكَ أَنْ تـَرْحـَمَا               وَتَعْصي الْعَوَاذِلَ وَاللُّوَّمَا

وَتـَـرْثـِـي لـِصَـبٍّ بِكُمْ مُغْرَمٌ               أَقـَامَ عـَلـَى هَجْرِكُمْ مَأْتَمَا

يـَـبـِـيـتُ إِذَا جَـنَّـهُ لَـيْــــلُــهُ               يُرَاعِي الْكَوَاكِبَ وَالْأَنْجُمَا

وَمـَاذَا عَـلَى الصَّبِّ لَوْ أَنَّـهُ                أَحَلَّ مِنَ الْوَصْلِ مَا حَرَّمَا

وأما الفضيل بن عياض: فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلًا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها؛ إذ سمع قارئًا يقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)؛ فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن، فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة (أي: أبناء السبيل) وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلًا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم مِن المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبتُ إليك، وجعلتُ توبتي إليك جوار بيتك الحرام" (انتهى من تفسير القرطبي).

وكان هذا سبب تسميته: عابد الحرمين، كما أرسل له عبد الله بن المبارك رسالته المشهورة:

يا عابدَ الحرمين لو أبْصرتَنا             لَعلمْتَ أنَّك في العبادةِ تلْعبُ

وإن كان فيها مقال ومآخذ.

وفي الآيتين فوائد:

الأولى: بطء الاستجابة لأوامر الله -خاصةً ما يتعلق بأحوال القلوب- أمرٌ مذموم، فكيف بعدمها؟! وسرعة الاستجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- صفة أهل الإيمان، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24)، وقال -تعالى-: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ) (الشورى:47)، فلابد أن ينظر كلُّ واحد منا في سرعة استجابته لأمر الله، وقد عاتب الله -سبحانه وتعالى- أصحاب نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهم خير أهل الأرض بعد الأنبياء على بطئهم في الخشوع؛ وهو خضوع القلب ولينه وعدم قسوته.

ومن علامات سرعة الاستجابة: المبادرة إلى الخيرات والمسارعة إليها، قال الله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133).

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "قال أنس بن مالك ومكحول: معناه إلى تكبيرة الإحرام. وقال علي بن أبي طالب: إلى أداء الفرائض. وقال عثمان بن عفان: إلى الإخلاص. وقال الكلبي: إلى التوبة من الربا. وقيل: إلى الثبات في القتال. وقيل غير ذلك. والآية عامة في الجميع" (انتهى).

الثانية: الخشوع صفة أهل الإيمان:

قال الله -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2)، ففي الصلاة تظهر هذه العبادة أتم ما تكون، وعند قراءة القرآن والذكر.

قال ابن القيم -رحمه الله- في "مدارج السالكين" في "منزلة الخشوع": "الخشوع في أصل اللغة: الانخفاض، والذل، والسكون، قال الله -تعالى-: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ) (طه:108)، أي: سكنت، وذلت، وخضعت، ومنه وصف الأرض بالخشوع، وهو يُبْسُها، وانخفاضها، وعدم ارتفاعها بالري والنبات، قال الله -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (فصلت:39).

والخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل، والجُمْعِيَّة عليه (أي: اجتماع القلب عليه وحده في إرادته ومحبته ومعرفته).

وقيل: الخشوع الانقياد للحق، وهذا مِن موجبات الخشوع؛ فمن علاماته أن العبد إذا خُولف ورُدَّ عليه بالحق؛ استقبل ذلك بالقبول والانقياد.

وقيل: الخشوع خمود نيران الشهوة، وسكون دخان الصدور، وإشراق نور التعظيم في القلب.

وقال الجُنيد: الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب.

وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب، وثمرته على الجوارح، وهي تُظْهِرُه، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: "لو خَشَعَ قَلْبُ هذا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ" (إسناده ضعيف)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التَّقْوَى هَاهُنَا) وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).

وقال بعض العارفين: حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن، ورأى بعضهم رجلًا خاشع المنكبين، فقال: يا فلان، الخشوع هاهنا، وأشار إلى صدره، لا هاهنا، وأشار إلى منكبيه.

وكان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- (وهو حذيفة) يقول: إيَّاكم وخشوع النفاق! فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسدَ خاشعًا، والقلب ليس بخاشع.

 ورأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلًا طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب.

ورأت عائشة -رضي الله عنها- شبابًا يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها: مَن هؤلاء؟ فقالوا: نُسَّاك، فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقًا.

وقال الفضيل بن عياض: كان يُكْره أن يُرِيَ الرجلُ من الخشوع أكثر مما في قلبه، وقال حذيفة -رضي الله عنه-: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورُبَّ مُصلٍ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعًا، وقال سهل: مَن خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان".

وشرح هذه المنزلة بالتفصيل في دروس شرح مدارج السالكين فليراجع.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة