الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (46) آيات من القرآن في ذم القسوة (24)

مصلحة الإخلاص والحضور، وجمعية القلب على الله في الصلاة أرجح في نظر الشارع من مصلحة سائر واجباتها

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (46) آيات من القرآن في ذم القسوة (24)
ياسر برهامي
الخميس ٠١ أكتوبر ٢٠٢٠ - ٢٢:٥٤ م
497

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (46) آيات من القرآن في ذم القسوة (24)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:16-17).

الفائدة الرابعة: حكم الصلاة بغير خشوع:

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "فإن قيل: ما تقولون في صلاة مَن عَدِم الخشوع هل يُعْتَدُّ بها أم لا؟

قيل: أما الاعتداد بها في الثواب؛ فلا يُعْتَدُّ له فيها إلا بما عَقِل فيه منها، وخَشَع فيه لربه.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلتَ منها. وفي المسند مرفوعًا: (إنَّ العَبْدَ لَيُصَلي الصَّلاةَ، وَلَمْ يُكْتبْ له إلا نِصْفُها، أو ثُلُثُها، أو رُبْعُها حتَّى بَلَغَ عُشْرَهَا) (رواه أحمد وأبو داود بنحوه، وحسنه الألباني).

وقد عَلَّق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم؛ فدلَّ على أن مَن لم يخشع فليس مِن أهل الفلاح، ولو اعتد له بها ثوابًا؛ لكان من المفلحين.

وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا وسقوط القضاء: فإن غَلَب عليها الخشوع وتعقلها اُعْتُدَّ بها إجماعًا، وكانت السنن، والأذكار عَقِيبَها جَوابِرَ ومُكَمِّلات لنقصها.

وإن غَلَب عليه عدم الخشوع فيها، وعدم تَعَقُّلِها؛ فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها، فأوجبها أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد، وأبو حامد الغزالي في "إحيائه"، لا في "وسيطه" و"بسيطه".

واحتجوا بأنها صلاة لا يُثَاب عليها، ولم يُضمَن له فيها الفلاح، فلم تبرأ ذمته منها، ويسقط القضاء عنه كصلاة المرائي.

قالوا: ولأن الخشوع والعقل روح الصلاة ومقصودها ولبها؛ فكيف يعتد بصلاة فقدت رُوحَها ولُبَّها، وبقيت صورتها وظاهرها؟!

قالوا: ولو ترك العبد واجبًا من واجباتها عمدًا لأبطلها تركه. وغايته: أن يكون بعضًا من أبعاضها بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المُعْتَق في الكفارة؛ فكيف إذا عَدِمت رُوحَها، ولُبَّها ومقصودها؟! وصارت بمنزلة العبد الميت. إذا لم يعتد بالعبد المقطوع اليد، يعتقه تقربًا إلى الله -تعالى- في كفارة واجبة، فكيف يعتد بالعبد الميت؟!

وقال بعض السلف: الصلاة كجارية تُهدَى إلى مَلِك مِن الملوك، فما الظن بمَن يُهدى إليه جارية شلاء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد والرجل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة، حتى يُهدَى إليه جارية ميتة بلا روح، وجارية قبيحة؟! فكيف بالصلاة التي يُهديها العبد ويَتقَرَّب بها إلى ربه؟! والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وليس مِن العمل الطيب صلاة لا روح فيها، كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه.

قالوا: وتعطيل القلب عن عبودية الحضور والخشوع: تعطيل لمَلِك الأعضاء عن عبوديته، وعزل له عنها، فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها، وقد عُزل ملكها وتعطل؟!

قالوا: والأعضاء تابعة للقلب، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، فإذا لم يكن قائمًا بعبوديته، فالأعضاء أولى أن لا يُعتد بعبوديتها، وإذا فسدت عبوديته بالغفلة والوسواس؛ فأنَّى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه، وعن أمره يصدرون، وبه يأتمرون؟!

قالوا: وفي الترمذي وغيره، مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ لا يَسْتَجيبُ الدُّعاءَ مِن قَلْبٍ غَافِلٍ) (حسنه الألباني)، وهذا إما خاص بدعاء العبادة، وإما عام له ولدعاء المسألة، وإما خاص بدعاء المسألة الذي هو أبعد؛ فهو تنبيه على أنه لا يَقْبَل دعاء العبادة -الذي هو خاص حقه- من قلب غافل.

قالوا: ولأن عبودية مَن غلبت عليه الغفلة والسهو في الغالب لا تكون مصاحبة للإخلاص، فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد، والغافل لا قصد له؛ فلا عبودية له.

قالوا: وقد قال الله -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون:4-5)، وليس السهو عنها تركها؛ وإلا لم يكونوا مصلين، وإنما هو السهو عن واجبها؛ إما عن الوقت كما قال ابن مسعود وغيره، وإما عن الحضور والخشوع، والصواب: أنه يعم النوعين؛ فإنه -سبحانه- أثبت لهم صلاة، ووصفهم بالسهو عنها فهو السهو عن وقتها الواجب، أو عن إخلاصها وحضورها الواجب؛ ولذلك وصفهم بالرياء، ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء.

قالوا: ولو قدَّرنا أنه السهو عن واجب فقط، فهو تنبيه على التوعد بالويل على سهو الإخلاص، والحضور بطريق الأولى؛ لوجوه:

أحدها: أن الوقت يسقط في حال العذر، وينتقل إلى بدله، والإخلاص والحضور لا يسقط بحال، ولا بدل له.

الثاني: أن واجب الوقت يسقط لتكميل مصلحة الحضور، فيجوز الجمع بين الصلاتين للشغل المانع من فعل إحداهما في وقتها بلا قلب ولا حضور: كالمسافر، والمريض، وذي الشغل الذي يحتاج معه إلى الجمع، كما نصَّ عليه أحمد وغيره.

فبالجملة: مصلحة الإخلاص والحضور، وجمعية القلب على الله في الصلاة أرجح في نظر الشارع من مصلحة سائر واجباتها؛ فكيف يظن به أنه يبطلها بترك تكبيرة واحدة، أو اعتدال في ركن، أو ترك حرف، أو شَدَّة من القرآن، أو ترك تسبيحة أو قول: سمع الله لمن حمده، أو قول: ربنا ولك الحمد، أو ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة عليه، ثم يصححها مع فَوْتِ لُبِّهَا، ومقصُودِها الأعظم، ورُوحِها وسِرِّها.

فهذا ما احتجَّت به هذه الطائفة، وهي حجج كما تراها قوة وظهورًا.

قال أصحاب القول الآخر: قد ثَبَتَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح أنه قال: (إذا أذَّنَ المؤَذِّنُ أدْبَرَ الشَّيْطانُ له ضُراطٌ، حتّى لا يَسْمع التَّأْذِينَ، فإذا قُضِيَ التَّأْذِينُ أقْبَلَ حتّى إذا ثُوِّبَ بالصَّلاةِ أدْبَرَ حتّى إذا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أقْبَلَ حتّى يَخْطُرَ بيْنَ المَرْءِ ونَفْسِهِ يقولُ له: اذْكُرْ كَذا واذْكُرْ كَذا، لِما لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِن قَبْلُ حتّى يَظَلَّ الرَّجُلُ ما يَدْرِي كَمْ صَلّى، فَإِذا وجَدَ ذلكَ أحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وهو جالِسٌ) (متفق عليه).

قالوا: فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان فيها، حتى لم يدرِ كَمْ صلَّى بأن يسجد سجدتي السهو، ولم يأمره بإعادتها، ولو كانت باطلة كما زعمتم لأمره بإعادتها.

قالوا: وهذا هو السر في سجدتي السهو؛ ترغيمًا للشيطان في وسوسته للعبد، وكونه حال بينه وبين الحضور في الصلاة؛ ولهذا سمَّاهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُرْغِمَتَيْنِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وأمر مَن سها بهما ولم يُفصِّل في سهوه الذي صَدَر عنه مُوجِب السجود بين القليل والكثير، والغالب والمغلوب، وقال: (لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، ولم يستثنِ من ذلك السهو الغالب، مع أنه الغالب.

قالوا: ولأن شرائع الإسلام على الأفعال الظاهرة، وأما حقائق الإيمان الباطنة؛ فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب، فللـه -تعالى- حكمان: حُكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح، وحكم في الآخرة على الظواهر والبواطن؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقْبل علانية المنافقين، ويكل أسرارهم إلى الله فيناكحون، ويَرثون ويورَّثون، ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا، فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة؛ إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة، وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر؛ بل إلى الله، والله يتولاه في الدار الآخرة.

نعم لا يحصل مقصود هذه الصلاة من ثواب الله عاجلًا ولا آجلًا؛ فإن للصلاة مزيد ثواب عاجلٍ في القلب من قوة إيمانه، واستنارته، وانشراحه وانفساحه، ووجود حلاوة العبادة، والفرح والسرور، واللذة التي تحصل لمن اجتمع همه وقلبه على الله، وحضر قلبه بين يديه، كما يحصل لمن قرَّبه السلطان منه، وخصَّه بمناجاته والإقبال عليه، والله أعلى وأجل.

وكذلك ما يحصل لهذا من الدرجات العلى في الآخرة، ومرافقة المقربين؛ كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وليس كلامنا في هذا كله.

فإن أردتم وجوب الإعادة لتحصل هذه الثمرات والفوائد؛ فذاك إليه إن شاء أن يحصلها، وإن شاء أن يفوتها على نفسه، وإن أردتم بوجوبها أن نلزمه بها ونعاقبه على تركها، ونرتب عليه أحكام تارك الصلاة؛ فلا. وهذا القول الثاني أرجح القولين. والله أعلم" (انتهى).

قلتُ: والصواب هو صحة الصلاة، وليس له مِن ثوابها إلا ما عقل منها؛ لحديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: عَنْ أَبِي الْيَسَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ وَالرُّبُعَ وَالْخُمُسَ حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ) (رواه أحمد، وقال الألباني: "حسن لغيره")، وأما الإعادة بعد أن صلاها بنية الفريضة؛ فذلك لا يصح؛ لأن الله افترض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، وإذا قلنا بصحة الصلاة فإنما يكمل النقص الذي فيها بنية النافلة، وليس أنه يعيدها فريضة. والله أعلم.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة