الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (11)

وقفة تربوية: (ترك الجدال والمراء من آداب الخلاف والاختلاف)

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (11)
سعيد محمود
السبت ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٠ - ١٨:٣٧ م
476

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (11)

وقفة تربوية: (ترك الجدال والمراء من آداب الخلاف والاختلاف)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

- فإنه مما يؤخذ مِن هذه القصة العظيمة، هذا الدرس العظيم، وهو: أن المسلم يتعلم آداب الخلاف والاختلاف.

ومن هذه الآداب: أدب ترك الجدال والمراء فيما لا كبير فائدة فيه، وهذا ظاهر في القصة في قول الله -سبحانه وتعالى- حكاية عن أهل الكتاب أو غيرهم مِن الناس: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (الكهف:22).

إن أهل الكتاب بعد ما حدثت هذه القصة، صاروا يتناولون قصة أصحاب الكهف في حياتهم قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصاروا يتجادلون ويتكلمون كلامًا كثيرًا حول عددهم، ونحو ذلك، وتركوا الغرض العظيم والأهداف الكريمة من هذه القصة العظيمة.

وكانت مجالسهم لأتباعهم كلها تدور حول أمور لا كثير فائدة فيها، مثل: كم عدد فتية الكهف؛ بعضهم يقول: ثلاثة والكلب الرابع، وبعضهم يقول: خمسة والكلب السادس، ويتجادلون ويختلفون كذلك في أسماء الفتية؟ ما وظائفهم؟ أين مكان الكهف؟ وهكذا يتمارون ويختلفون، وهذه طريقة أهل الكتاب ومَن تأثر بهم مِن المفسرين، فإنهم ينشغلون ويشغلون ويتجادلون ويختلفون فيما لا كثير فائدة فيه، فيخرجون الأمر الأصل عن الغرض الأعظم الذي جاء من أجله النص أو الخبر!

- وتراهم يتنازعون في نوع الخشب الذي صُنعت منه سفينة نوح، أو يتنازعون في نوع الشجرة التي أكل منها الأبوان: هل كانت مِن التفاح أو غيره؟ مما لا كبير فائدة فيه؛ ولذلك عاب -سبحانه وتعالى- عليهم ذلك فقال: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أي: ليس هذا هو الغرض من القصة، وأن الغرض مِن القصة: أن نأخذ منها الدروس والفوائد الكثيرة التي ذكرناها آنفًا في مقالاتٍ سابقةٍ.

- ولذلك كان على المسلم أن يتأدب بأدب وطريقة القرآن، بأن لا يشغل القارئ بمثل هذه الأمور؛ فالقرآن لم يتعرض لأسماء الفتية ولا تحديد عددهم، إنما يركز على الهدف العظيم من القصة، والأمثلة كثيرة جدًّا في القرآن على ترك التفاصيل التي لا كثير فائدة من ذكرها، فضلًا عن الجدل والاختلاف حولها، ولنضرب مثالًا واحدًا من قصص القرآن.

وانظر إلى قصة "صاحب يس"؛ هذا الرجل الداعي الذي قام يدعو القرية الظالمة، وقد حكى الله -عز وجل- ما دار بينه وبين أهل القرية من حوار وأنه جعل يقيم عليهم حجة التوحيد، ثم ذكر الله -عز وجل- بعد الحوار مشهد دخول الرجل الجنة، وأنه صار من أهل الجنة، وتأمل السياق: (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس:25-27).

أين المشاهد التي بين المشهدين؟ القرآن لا ينشغل بذلك كثيرًا، ويختصر مشهد قتله -رضي الله عنه-؛ تربية للمؤمنين، فالمشهد المحذوف هنا هو مشهد مقتل الرجل، كيف قتل؟ فإن القرآن لم يتعرض لذلك، وتعرض لما هو أهم، وهو أن الرجل قام بمهمته في الدعوة، ودعا الناس إلى الله -عز وجل-، ثم انتقل القرآن إلى مصير الرجل وهو الجنة، فيفهم المؤمن من غير حكاياتٍ كثيرةٍ أن الرجل قتل، كيف ذلك؟ لا كبير فائدة في معرفة ذلك، ولكن المهم هو ما مصيره في الآخرة؟ (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ)، وفي هذا تربية للمؤمن على الإخلاص، والانشغال بالأعظم والأهم في الأمور.

- وهذه هي طريقة القرآن... ترك التفاصيل التي لا كثير فائدة من ذكرها، فضلًا عن الاختلاف والجدال حولها؛ ولذلك كان في قصة أصحاب الكهف، درس تربوي عظيم، وقد قال الله -عز وجل-: (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)، وذلك أنه كان قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم أحدٌ عددهم على الوجه الصحيح، ولكن بعد نزول القرآن ظهر العدد، كانوا سبعة؛ لأن الله -عز وجل- ردَّ القولين الأولين، وأقر الثالث (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ)، فلما وصف ذلك بأنه رجم بالغيب دل على خطئه وبطلانه، ثم أقر الرأي الثالث: (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم)، فدل على صحته ورجحانه؛ لذلك كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "أنا مِن القليل، كانوا سبعة".

- وهذا كما نكرر لم يكن يشغلهم -رضي الله عنهم- كثيرًا؛ إنما الذي كان يشغلهم الأثر والعبرة والفائدة من هذه القصة العظيمة، بما ينفعهم في دينهم ودنياهم.

نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممَن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة