الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

لعلهم يتضرعون

لا شك أن هذه المصائب وغيرها توجب على العباد المبادرة بالتوبة إلى الله -سبحانه-،

لعلهم يتضرعون
أحمد مسعود الفقي
السبت ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٠ - ١٨:٣٩ م
408

لعلهم يتضرعون

كتبه/ أحمد مسعود الفقي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمما لا شك فيه أن الناس عمومًا أكثر ما يكونون توجهًا ولجوءًا وتضرعًا إلى الله -عز وجل-، عندما تحيط بهم المصائب والمكاره، وتنزل بهم النوازل، ولقد بيَّن الله -عز وجل- ذلك في القرآن الكريم، في مواضع كثيرة، فقال -جل وعلا-: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يونس:12)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (لقمان:32).

وقال -سبحانه- في موضع ثالث: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس:22).

هذه بعض الآيات التي ذكرت لونًا معينًا من ألوان الطبيعة البشرية، والتي منها يتبين لنا أن الناس يجأرون إلى الله بالدعاء العريض حينما يمسهم الضر، وتحيط بهم المكاره، فإذا ما كشف الله عنهم الضر رجعوا إلى ما كانوا عليه من غشيان المحرمات، وارتكاب المنكرات، بدلًا من أن يرجعوا إلى رب الأرض والسماوات، الذي كشف عنهم الكربات، بالتوبة الصادقة التي تكون سببًا في جلب الحسنات، ومحو السيئات.

وخير شاهد على ذلك، ما نحن فيه الآن وما حدث في ظل جائحة كورونا التي اجتاحت العالم أجمع، فأصابت الملايين، ولم يجدوا لها علاجًا حتى الآن؛ الأمر الذي عجز أمهر الأطباء أمامه عن كشف كنه هذا الفيروس، واستحال على أعتى الدول وأغناها أن يجدوا علاجًا لهذا الفيروس، الذي لم يُرَ بالعين المجردة، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

فبهذا يتبين أنه ما مِن داء إلا وله دواء وله شفاء، يعلمه مَن امتن الله عليه بعلمه، ويجهله مَن لم يوفق لذلك، ولما لم يوفق أحدٌ مِن هؤلاء إلى علم دواء لهذا المرض؛ فذلك لحكمة يعلمها الله -عز وجل- لعلهم يتضرعون، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام 42ـ43).

وفي هذه الآية الكريمة: حثٌ مِن الله -سبحانه- لعباده، وترغيبٌ لهم إذا حلت بهم المصائب من الأمراض والجراح، والقتال والزلازل، والريح العاصفة، وغير ذلك من المصائب، أن يتضرعوا إليه ويفتقروا إليه فيسألوه العون، وهذا هو معنى قوله -سبحانه-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)، والمعنى: هلاَّ إذ جاءهم بأسنا تضرعوا.  

ثم بيَّن -سبحانه- أن قسوة قلوبهم، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة؛ كل ذلك بسبب صدهم عن التوبة والضراعة والاستغفار، فقال -عز وجل-: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

ولا شك أن هذه المصائب وغيرها توجب على العباد المبادرة بالتوبة إلى الله -سبحانه-، مِن جميع ما حرَّم الله عليهم، والمبادرة إلى طاعته وتحكيم شريعته، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، قال -تعالى-: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:74).

وقد ثبت عن الخليفة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه لما وقع الزلزال في زمانه، كتب إلى عماله في البلدان، وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله والضراعة إليه، والاستغفار من ذنوبهم.

وقد علمتم -أيها المسلمون- ما وقع في عصرنا هذا من أنواع الفتن والمصائب، والأمراض والأوبئة ما الله به عليم، فكان لزامًا في هذا الأمر أن يرجع الناس إلى الخالق والمدبر والمتصرف في أمور ملكه، ولا متصرف غيره؛ فهو وحده الذي يكشف السوء، ويصرف البلاء؛ خاصةً وأن الجميع الكافر قبل المؤمن أيقنوا أنه: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) (النجم:58)، وقد قال -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (الإسراء:59).

وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيّ -رضي الله عنه- قَال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ) (رواه مسلم).

قال ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: "قال قتادة: إن الله خوَّف الناس بما يشاء من آياته لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فَأَعْتِبُوهُ"، "لكن على النقيض تمامًا رأينا جرأة على الرحمن في سائر البلدان، ومحاربةً لشرعه ودينه الأكملين، وانصرافًا عن منهج السنة والقرآن، إلى أفكار بني علمان، ومعاداةً واستهزاءً بنبينا العدنان ـ ـ مع خراب الضمائر والذمم وشرائها بأبخس الأثمان، وصدق الله إذ يقول: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) (الإسراء:60).

فما الذي حدث للإنسان؟ هل تغيَّر عما كان أم تغير الزمان والمكان؟ أم تبدلت البلاد والأوطان؟ أم ماتت القلوب من كثرة الران؟ إنها الغفلة والنسيان، أعقبتهما الخيبة والخسران، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالله المستعان.

فيا معشر المسلمين حاسِبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم واستغفروه، وبادروا إلى طاعته، واحذروا معصيته، وتعاونوا على البر والتقوى، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، وأعدوا العدة الصالحة قبل نزول الموت، وارحموا ضعفاءكم، وواسوا فقراءكم، وأكثروا من ذكر الله واستغفاره، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لعلكم ترحمون، واعتبروا بما أصاب غيركم من المصائب بأسباب الذنوب والمعاصي، والله يتوب على التائبين، ويرحم المحسنين، ويحسن العاقبة للمتقين" (من كلام الإمام الفقيه العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله).

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً