الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (55) أحاديث في ذمِّ القَسْوة والعُنْف والغِلْظَة، ومَدْح الرِّفْق واللَّيْن

قال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك في آخرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح؛ فهي حكمة وحُكْم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (55) أحاديث في ذمِّ القَسْوة والعُنْف والغِلْظَة، ومَدْح الرِّفْق واللَّيْن
ياسر برهامي
الخميس ٠٣ ديسمبر ٢٠٢٠ - ٠٩:٣٠ ص
439

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (55) أحاديث في ذمِّ القَسْوة والعُنْف والغِلْظَة، ومَدْح الرِّفْق واللَّيْن

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: أَشَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ نَحْوَ اليَمَنِ: (الإِيمَانُ هَا هُنَا -مَرَّتَيْنِ- أَلاَ وَإِنَّ القَسْوَةَ وَغِلَظَ القُلُوبِ فِي الفَدَّادِينَ -حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ- رَبِيعَةَ وَمُضَرَ).

وفي رواية لمسلم: (وَإنَّ القَسْوَةَ وغِلَظَ القُلُوبِ في الفَدّادِينَ، عِنْدَ أُصُولِ أذْنابِ الإبِلِ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنا الشَّيْطانِ في رَبِيعَةَ، ومُضَرَ)، وفي رواية له: (جَاءَ أهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أرَقُّ أفْئِدَةً؛ الإيمانُ يَمانٍ، والْفِقْهُ يَمانٍ، والْحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ)، وفي رواية: (رَأْسُ الكُفْرِ نَحْوَ المَشْرِقِ، والْفَخْرُ والْخُيَلاءُ في أهْلِ الخَيْلِ والإِبِلِ الفَدّادِينَ؛ أهْلِ الوَبَرِ، والسَّكِينَةُ في أهْلِ الغَنَمِ).

وفي رواية: (الإِيمانُ يَمانٍ، والْكُفْرُ قِبَلَ المَشْرِقِ، والسَّكِينَةُ في أهْلِ الغَنَمِ، والْفَخْرُ والرِّياءُ في الفَدّادِينَ أهْلِ الخَيْلِ والْوَبَرِ)، وفي رواية: (غِلَظُ القُلُوبِ والْجَفاءُ في المَشْرِقِ، والإِيمانُ في أهْلِ الحِجازِ).

قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح (رحمه الله تعالى، بعد أن ذَكَرَ قَوْلَ أبي عبيد أن المراد بذلك الأنصار؛ لأنهم يمانون في الأصل؛ فَنَسب الإيمان إليهم؛ لكونهم أنصاره): "ولو جمع أبو عبيد -ومَن سلك سبيله- طرق الحديث بألفاظه، كما جمعها مسلم وغيره، وتأملوها؛ لصاروا إلى غير ما ذكروه، ولما تركوا الظاهر، ولقضوا بأن المراد اليمن وأهل اليمن، على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك؛ إذ مِن ألفاظه: "أَتاكُمْ أهْلُ اليَمَنِ"، والأنصار من جملة المخاطبين بذلك، فهم إذًا غيرهم -(يعني: أعمَّ منهم)-.

وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (جَاءَ أهْلُ اليَمَنِ)، وإنما جاء حينئذٍ غير الأنصار، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- وصفهم بما يقضي بكمال إيمانهم، ورَتَّب عليه قوله: (الإِيمانُ يَمانٍ)، فكان ذلك إشارة للإيمان إلى مَن أتاهم مِن أهل اليمن؛ لا إلى مكة والمدينة.

ولا مانع مِن إجراء الكلام على ظَاهِرِه وحَمْلِه على أهل اليمن حقيقة؛ لأن مَن اتَّصَف بشيء، وقَوِي قيامه به وتأكد اضطلاعه منه؛ نُسب ذلك الشيء إليه؛ إشعارًا بتميزه به، وكمال حاله فيه، وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذٍ في الإيمان، وحال الوافدين منهم في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي أعقاب موته: كأويس القرني، وأبي مسلم الخولاني -رضي الله عنهما- وأشباههما ممَن أسلم قلبه وقوي إيمانه؛ فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعارًا بكمال إيمانهم، من غير أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم، فلا منافاة بينه وبين قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالإِيمانُ في أهْلِ الحِجازِ).

ثم إن المراد بذلك الموجودون منهم حينئذٍ؛ لا كل أهل اليمن في كل زمان؛ فإن اللفظ لا يقتضيه، هذا هو الحق في ذلك، ونشكر الله -سبحانه- على هدايتنا له، والله أعلم.

قال: وأما ما ذُكِر مِن الفقه والحكمة؛ فالفقه هنا: هو عبارة عن الفهم في الدين، واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول، على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها.

وأما الحكمة: ففيها أقوال كثيرة مضطربة، قد اقتصر كلٌّ مِن قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها؛ أن الحكمة: عبارة عن العلم المتصف بالإحكام، المشتمل على المعرفة بالله -تبارك وتعالى-، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم مَن له ذلك.

وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك في آخرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح؛ فهي حكمة وحُكْم، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ مِن الشِّعْرِ حِكْمَةً) (رواه البخاري)، وجاء في بعض الروايات (حِكَمًا) (رواه أبو داود والترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح"). والله أعلم.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (هُمْ ألْيَنُ قُلُوبًا وأَرَقُّ أفْئِدَةً)، فالمشهور أن الفؤاد هو القلب؛ فعلى هذا يكون قد كرر ذكر القلب مرتين بلفظين، وهو أولى من تكريره بلفظٍ واحدٍ.

وقيل: الفؤاد غير القلب، وهو عين القلب. وقيل: الفؤاد باطن القلب. وقيل: هو غشاء القلب.

وأما وصفها بالرقة واللين والضعف؛ فمعناه: أنها ذات خشية واستكانة، سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير، سالمة مِن الغِلَظ والشدة والقسوة؛ التي وَصَف بها قلوب الآخرين.

وأما قوله: (فِي الفَدَّادِيْنَ) بتشديد الدال، قال الأصمعي: وهو مِن الفَدِيد؛ وهو الصوت الشديد؛ فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم، وحروثهم، ونحو ذلك.

وقال أبو عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى: هم المكثرون من الإبل؛ الذي يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف، والله أعلم.

وقوله: (إنَّ القَسْوَةَ في الفَدّادِينَ، عِنْدَ أُصُولِ أذْنابِ الإبِلِ) معناه: الذين لهم جَلَبَة وصياح عند سوقهم لها.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنا الشَّيْطانِ في رَبِيعَةَ، ومُضَرَ): ربيعة ومضر بدل من الفدَّادين.

وأما (قَرْنا الشَّيْطانِ): جانب رأسه. وقيل: هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس. وقيل: شيعتاه من الكفار.

والمراد بذلك: اختصاص المشرق بمزيدٍ مِن تسلط الشيطان ومِن الكفر، كما قال في الحديث الآخر: (رَأْسُ الكُفْرِ نَحْوَ المَشْرِقِ)، وكان ذلك في عهده -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث -(يعني: مسيلمة الكذاب والمرتدين مِن أهل اليمامة ونجد)- قال: ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة، ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية، الشديدة البأس (يعني: التتار حال كفرهم، وكان ذلك في زمن أبي عمرو -رحمه الله تعالى-).

وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (والْفَخْرُ والْخُيَلاءُ) فالفخر هو: الافتخار، وعَدُّ المآثر القديمة تعظيمًا، والخيلاء: الكِبْر واحتقار الناس.

وأما قوله: (أهْلِ الخَيْلِ والإِبِلِ الفَدّادِينَ؛ أهْلِ الوَبَرِ) فالوبر: -وإن كان من الإبل دون الخيل- فلا يمتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الخيل والإبل والوبر.

وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (والسَّكِينَةُ في أهْلِ الغَنَمِ) أي: الطمأنينة والسكون؛ على خلاف ما ذكره من صفة الفدَّادين" (هذا آخر ما ذكره أبو عمرو بن الصلاح، نقلًا مِن شرح النووي على صحيح مسلم).

وليس المقصود ذمَّ كلِّ المشارقة، وإنما كما ذكر؛ كان ذلك في زمنه -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث كان الغلاظ القلوب الذين لا يفقهون من أهل نجد، وخرج منهم بعد ذلك مسيلمة الكذاب، والَّدجَّال من قِبَل المشرق، ويأجوج ومأجوج كذلك يخرجون من جهة المشرق، وينزلون إلى الأرض؛ ولذا حَرَّز الله عباده المؤمنين مع عيسى -صلى الله عليه وسلم- في جبل الطور في الغرب بعيدًا عن مخرج يأجوج ومأجوج.

وقد حاول بعض المغرضين الاستدلال بهذه الأحاديث على ذمِّ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-؛ لأنها ظهرت بنجد، وهذا من الباطل بلا شك؛ فليس كلُّ مَن كان مِن جهة المشرق مذمومًا؛ فالبخاري -رحمه الله- من جهة المشرق، ومسلم من جهة المشرق، وكم من أهل الخير كانوا في جهة المشرق، وإنما العبرة بوجود الصفات والغلظة، وقد كانت صفة القسوة في أهل نجد في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكثيرًا بعدها.

وقال الخطابي -رحمه الله-: "إنما ذم هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم عليه من أمور دنياهم وتلهيهم عن الآخرة، وتكون منها قساوة القلب" (عمدة القاري للعيني).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال عن صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الأحزاب:45)، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ " (رواه البخاري).

قال القاري -رحمه الله-: "والمعنى ليس بسيئ الخلق أو القول. ولا غليظ أي: ضخم كريه الخلق أو سيئ الفعل، أو غليظ القلب وهو الأظهر؛ لقوله -تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنهُم وَاستَغْفِرْ لَهُم وَشاوِرْهُم فِي الأَمْرِ) (آل عمران:159).

(وَلَو كُنتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ): أي: شديده وقاسيه، فَيُناسِب حينئذٍ أن يكون الفَظُّ معناه: بذاذة اللسان، ففيه إيماء إلى طهارة عضويه الكريمين مِن دنس الطبع، ووسخ هوى النفس الذميمين. وقد قال الكلبي: فَظًّا في القول، غليظ القلب في الفعل" (انتهى مِن "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح").

وقال المناوي -رحمه الله-: "(ليس بفَظٍّ) أي: شديد، ولا قاسي القلب على المؤمنين. (ولا غَلِيْظٍ) أي: سيئ" (التيسير بشرح الجامع الصغير).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رَجُلًا شَكا إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَسوَةَ قَلبِه، فقال له: (إنْ أرَدتَ أنْ يَلينَ قَلبُكَ؛ فأَطعِمِ المِسكينَ، وامسَحْ رَأسَ اليَتيمِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

 قال الملا علي القاري في شرحه للحديث: "(قَسوَةَ قَلبِه) أي: قساوته وشدته، وقلة رقته وعدم ألفته ورحمته. (وامسَحْ رَأسَ اليَتيمِ)؛ لتذكر الموت فيغتنم الحياة، فإن القسوة منشؤها الغفلة، و"أَطعِمِ المِسكينَ"؛ لترى آثار نعمة الله عليك؛ حيث أغناك وأحوج إليك سواك؛ فيرق قلبك وتزول قسوته، ولعل وجه تخصيصهما بالذكر أن الرحمة على الصغير والكبير مُوجِبة لرحمة الله -تعالى- على عبده المتخلق ببعض صفاته (يعني: بما يناسب المخلوق من ذلك)؛ فيُنْزِل عليه الرحمة ويرتفع عنه القسوة، وحاصله: أنه لا بد من ارتكاب أسباب تحصيل الأخلاق بالمعالجة العلمية أو بالعملية أو بالمعجون المركب منهما"( انتهى مِن "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح").

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة