الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

نتاج قسوة القلب!

القسوة نتاجها مُر، وثمارها أصعب

نتاج قسوة القلب!
إبراهيم جاد
الأربعاء ٢٣ ديسمبر ٢٠٢٠ - ١٤:٢٢ م
538

نتاج قسوة القلب!

كتبه/ إبراهيم جاد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمن المعلوم بين أهل الديانة: أن القلوب تتقلب، فساعة يشتد إيمانها، وساعة ينقص ويضعف، كما هو عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان، ولكن المصيبة إذا استمر هذا الضعف ولم يُعالَج، ولم يبحث له عن سبيل ليلين ويخشع، فإنه يتحول إلى قسوة تختلف من شخص لشخص لآخر، ومن قلب لآخر.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله، خلقت النار لإذابة القلوب القاسية، أبعد القلوب من الله القلب القاسي" (الفوائد).

وهذه القسوة نتاجها مُر، وثمارها أصعب؛ ولذا وجب التنبيه والتحذير من "نتاج قسوة القلب"، وإليكم أهم نتاج لتلك القسوة:

1- الانصراف عن كتاب الله -تعالى-:

ولا تعجب؛ فالقرآن يرقق القلب القاسي، ويذيب صلادته، ويمحو قسوته، ويملؤه نورًا؛ أما البعيد عنه فلا يتأثر بمواعظه ولا برقائقه، ولا بوعده ووعيده، ولا يستشعر بلذة التلاوة وحلاوة الخشوع، ووقع الكلمات على القلب والنفس، بل تجده منصرفًا عنه، رغم فراغ وقته وعافية بدنه، يقلب عشرات الصحفات، ويقرأ عشرات الأخبار، ويجلس أمام التلفاز عشرات الساعات، ولا يقوى على أن يجلس على كتاب الله -تعالى-.

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "مِن علامة إعراض الله عن العبد: أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، خذلانًا من الله -عز وجل-"، بل لا يقوى على حفظ حتى قصار السور، وفي الوقت نفسه ربما يحفظ كلمات الأغاني، وتنتابه نشوة إذا سمعها!

والحقيقة أن هذا مِن أعظم الحرمان، نسأل الله العفو والعافية.

قال الله -عز وجل-: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر:22)؛ قال السعدي -رحمه الله-: "أي: لا تلين لكتابه، ولا تتذكر بآياته، ولا تطمئن بذكره، بل هي مُعرِضة عن ربها، مُلتفتة إلى غيره، فهؤلاء لهم الويل الشديد، والشرُّ الكبير" (تفسير السعدي).

فالمؤمن الحق إذا قرأ القرآن رقَّ قلبه وبكت عينه، وفاضت مشاعره، واهتزت أوصاله، وزاد إقباله وخشع من خشية الله -تعالى-، قال الله -عز وجل-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر:23).

ندم الصالحون على أن ضيَّعوا أعمارهم في الخير، ولكن بعيدًا عن كتاب الله -تعالى-، في الفقه أو الحديث -مثلًا- برغم عظم شأنهم؛ إلا أنهم يعلمون أن الأجر الأكبر والثواب الأعظم على مائدة كتاب الله -تعالى-؛ فكيف بأصحاب الهجر قساة القلوب؟!

?- الغفلة:

هي كسوق يتجول فيه بين سبات عميق، وهمة فاترة، وحياة رخيصة لا قيمة لها، ووقت يضيع هباء ويسرق ويتيه في مسالك الحياة، بل يسخِّر كل طاقاته وقدراته من أجلها فقط، وربما يكون ذلك لهدف دنيوي سام أو غير ذلك، ويغرق في بحورها فيعيش من أجل الدنيا، فكان من نتاج هذه الغفلة: "قسوة القلب" التي ترتبت عليها أشياء كثيرة، يطول إحصاؤها.

مِن أجَلِّها وأوضحها شكلًا: تسلُّط الشيطان على العبد؛ فلا يسلم من نزعاته وغواياته، وتضليله التي أمرنا الله بالاستعاذة منها، فقال -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ . وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) (الأعراف:200 - 202).

- ومن نتاج الغفلة بقسوة القلب: "نسيان الموت": وهذه عقوبة جديدة، وثمرة من ثمرات قسوة القلب وغفلته، فانشغاله بالملذات والشهوات أنساه القبر وضمته، وسؤال الملكين والموت وسكرته، والحساب والصراط، والميزان والنار، وشدتها وكربتها، وصريخ وعويل أهلها، وكأنه خُلق لينغمس في الشهوات لا ليعبد مَن خلقه وخلقها -جل وعلا-، والمصيبة إذا حل به الموت تمنى الرجوع، وقال: (رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (المؤمنون:99- 100).

- ومِن نتاج الغفلة بقسوة القلب: "حياة الضنك": فصاحب القلب القاسي يبحث عما يسعده بعيدًا عن حظيرة الإيمان، ومعرضًا عن هدي السلف، فيُعاقَب بتعاسة الحياة، وربما مع ماله الكثير يفتقد الراحة والسكينة والطمأنينة، ومع جاهه الكبير يشعر بالنقص والعوز والحاجة الدائمين، ثم لا يلبث أن يبحث عن بيت مشيد، وزوجة حسناء قمراء، وسيارة فخمة لا يدري قيمتها إلا الأثرياء، وفي النهاية لم يشبع ولم يقتنع، بل لم يرضَ! والسبب: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:???).

- ومِن نتاج الغفلة بقسوة القلب: "حبس اللسان عن الذكر": الذي هو مِن أيسر العبادات وأسهلها، ولكن غفلته حجبت لسانه عن اقتراف الآلاف، بل المئات من الحسنات اليومية، والذي هو أغلى مِن الذهب والفضة، ولكنه الحرمان.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "على قَدْر غفلة العبد عن الذكر يكون بُعده عن الله" (الوابل الصيب).

- ومِن نتاج الغفلة بقسوة القلب: "الاستهانة بصغائر الذنوب": بل إدمانها والتعود عليها وكأنها أصبحت عادة دون أي تأثر، أو شعور بالذنب؛ قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا"، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ. (رواه البخاري).

?- عدم الشعور بالفقراء والمحتاجين واليتامى والمساكين:

فإن جمود القلب يتعدى صاحبه إلى مَن هو أضعف منه، فلا يمسح برأس يتيم، ولا يعطف على مسكين، ولا يقضي لمحتاج حاجة؛ شكا رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسوة قلبه، فقال له: (امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ، وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ) (رواه أحمد، وقال الألباني: "حسن لغيره").

بل يتعدَّى الأمر عند بعض الناس إلى عدم الشعور حتى بزوجته! فيقسو عليها، ويظلمها ويهينها، ويستقوي عليها بجسمه أحيانًا، وبماله أحيانا، رغم العشرة وطول العهد، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ) (رواه الحاكم، وحسنه الألباني).

وربما بقسوته يقطع رحمه لأي سبب دنيوي، أو لأنايته وحبه لذاته، بل يصل لحد أن ينسى فضل والديه، فيحجد حقهما بظلمة قلبه وجموده. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

?- التقصير في تربية الأولاد:

فيقصِّر في  حقهم وفي القرب منهم، والحرص على نفعهم والإحسان إليهم، وشعورهم بالدفء الأبوي والحنان الفعلي، وينشغل عنهم، وقد حَثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرحمة والعطف، وعاتب بعض الناس على قسوته، كما فعل مع الأقرع بن حابس، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الأقرع بن حابس أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبِّل الحسن، فقال: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ) (متفق عليه).

أسأل الله أن يرزقنا قلبًا لينًا هينًا، نقيًّا تقيًّا، خائفًا وجلًا، رقيقًا رقراقًا، وأن يصرف عنا قسوته وجموده، وأن يكتب لنا ولكم الثبات حتى الممات، ثم إلى الجنات.

إنه ولي ذلك، وهو القادر عليه.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة