الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

استحيوا عباد الله

مَن لم يستحِ؛ فَعَلَ ما شاء مِن القبائح والنقائص

استحيوا عباد الله
أحمد مسعود الفقي
الثلاثاء ٠٥ يناير ٢٠٢١ - ٠٩:١٠ ص
427

استحيوا عباد الله

كتبه/ أحمد مسعود الفقي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإسْلامِ الْحَيَاءُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وعن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ) (متفق عليه).

قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "خُلق الحَيَاء مِن أفضل الأخلاق وأجلِّها، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، بل هو خاصَّة الإنسانيَّة، فمَن لا حياء فيه، فليس معه مِن الإنسانيَّة إلاَّ اللَّحم والدَّم وصورتهما الظَّاهرة، كما أنَّه ليس معه مِن الخير شيء" (مفتاح دار السعادة).

وقال ابن رجب -رحمه الله-: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ) فإنَّه أي الحياء يكفُّ صاحبه عن ارتكاب القبائح، ودناءة الأخلاق، ويحثُّه على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِن خصال الإيمان بهذا الاعتبار.

وعن أبي مسعودٍ البدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) (رواه البخاري).

ومعناه: أن مَن لم يستحِ؛ فَعَلَ ما شاء مِن القبائح والنقائص، وهذا مشاهد فيمن قل حياؤهم وساءت أخلاقهم، وانتكست فطرتهم، وزادت جرأتهم على ربهم؛ فلا حياء يمنعهم، ولا دين يردعهم! ترى الواحد منهم يتكلم في أدق الأسرار عن الحياة الزوجية والعلاقات الحميمة، ويزيد الطين بلة إذا كان المتحدث امرأة، وعلى الملأ في القنوات الفضائية ومع الرجال!

وآخر ينادي بالاعتراف بالمثليين والشواذ، واعتبارهم طائفة من المجتمع، وآخر ينادي بتعري النساء وخروجهن سافرات، ويسمي ذلك: حرية، ويحارب الحجاب، ويسميه تخلفًا ورجعية!

وآخر يبيت يفعل المعاصي والمنكرات ثم يصبح يفضح نفسه ويجاهر بمعصيته، وغير ذلك كثير مما لا شك فيه، أنه حرب على القِيَم الإسلامية والتعاليم الدينية، وإشاعة للفساد والانحطاط في مجتمعات المسلمين! (ولا حول ولا قوة إلا بالله).

ولله در القائل:

ورب قـبيـحـة مـا حـال بـيـنـي                       وبـيـن ركـوبـهـا إلا الـحـيـاء

فـكـان هـو الــدواء لها ولـكـن                       إذا ذهــب الـحـيـاء فــلا دواء

إذا لـم تـخـشَ عـاقـبة الـليالي                        ولم تـستحِ فـاصـنـع ما تشاء

فلا والله ما في الـعـيش خــيـر                       ولا الـدنـيا إذا ذهـب الـحـيـاء

يعيش المرء ما استحيا بـخـير                       ويـبـقـى العود ما بقي اللحاء

فالحياء يمنع صاحبه من قول ما يُستقبح من الأقوال، أو فِعْل ما يُستقبح من الأفعال، ويحث على التحلي بالفضائل مِن الأقوال والأفعال والأخلاق.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ) (متفق عليه).

وعَنْ سَعِيدِ بن يَزِيدَ الأَزْدِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْصِنِي، قَالَ:  (أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ) (رواه أحمد في الزهد، والبيهقي والطبراني، وصححه الألباني).

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ). قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: (لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

قال ابن رجب -رحمه الله-: "يدخل فيه: حفظ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، وحفظ البطن وما حوى: يتضمَّن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، ويتضمَّن أيضًا: حفظ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب، ومِن أعظم ما يجب حفظه مِن نواهي الله -عزَّ وجلَّ- اللِّسان والفرج" (جامع العلوم والحكم).

ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس حياءً، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا" (متفق عليه).

وما أكثر المواقف العظيمة في حيائه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، منها -على سبيل المثال لا الحصر-: ما جاء عن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّ امرأة سألت النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن غسلها مِن المحيض، فأمرها كيف تغتسل، ثمَّ قال: (خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بِهَا) قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟ قَالَ: (تَطَهَّرِي بِهَا)، قَالَتْ: كَيْفَ؟، قَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، تَطَهَّرِي) فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ. (متفق عليه). وفي رواية:  "وَاسْتَتَرَ -وَأَشَارَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِهِ-" (رواه مسلم).

وانظر إلى حياء ابنة نبي الله شعيب -عليه السلام- حين جاءت إلى موسى -عليه السَّلام- تدعوه إلى أبيها ليجزيه على صنيعه، فجاءت إليه تمشي على استحياء بسكيتة وأدب ووقار، قال -تعالى-: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) (القصص:25).

قال عمر -رضي الله عنه-: "فأقبلت إليه، ليست بسَلْفَع -أي: سليطة جريئة- مِن النِّساء، لا خرَّاجة ولا ولَّاجة -أي: ليست كثيرة الدخول والخروج- واضعةً ثوبها على وجهها" -أي: حياءً-.

وكان الرَّبيع بن خُثَيم -رحمه الله- مِن شدَّة غضه لبصره وإطراقه يَظُنُّ بعض النَّاس أنه أعمى، وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود عشرين سنة، فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود -رضي الله عنه-: "صديقك الأعمى قد جاء"، فكان يضحك ابن مسعود -رضي الله عنه- مِن قولها، وكان إذا دقَّ الباب تخرج الجارية إليه فتراه مطرقًا غاضًّا بصره. (إحياء علوم الدين للغزالي).

وكان أهل الجاهليَّة يتحرَّجون مِن بعض القبائح والنقائص بدافع الحَيَاء، وكان الحياء خلقًا محمودًا عندهم، فها هو هرقل يسأل أبا سفيان بن حرب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقول أبو سفيان: "فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ" (رواه البخاري)، فمنعه الحَيَاء مِن الافتراء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لئلا يُوصف بالكذب، ويشاع عنه ذلك.

وقبل الإسلام ها هو عنترة بن شداد حياءً ومروءةً منه يقول:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي                  حــتـى يـواري جــارتـي مــأواهـا

فاللهم ارزقنا الحياء، وأحينا عليه حتى نلقاك به، واسترنا، إنك أنت الحيي الستير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

ربما يهمك أيضاً

لا يستوون عند الله (1)
27 ٢٧ مارس ٢٠٢٤
مَن هوى فقد هوى(2)!
214 ٠٢ فبراير ٢٠٢٢
من هوى فقد هوى (1)!
121 ٢٩ ديسمبر ٢٠٢١