الدين الإبراهيمي بين
الحقيقة والضلال (8)
قصة بناء الكعبة (6)
كتبه/ ياسر
برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
فبعد أن ذكر الله -تعالى- أنه جعل خليله إبراهيم
-عليه السلام- إمامًا للناس -ومَن كان مِن ذريته عادلًا غير ظالم-؛ ذكر -سبحانه
وتعالى- قصة بناء الكعبة المُشَرَّفة قِبلة إمام البشرية كافة، وأمته إلى آخر
الزمان، وخير الخليقة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ خاتم النبيين، وإمام المرسلين،
وهذا تمهيدًا لنسخ القبلة مِن بيت المقدس إلى استقبال الكعبة؛ فقال -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا
وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى? إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125).
قال ابن كثير
-رحمه الله-: "قال
العوفي عن ابن عباس: قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يقول: لا يقضون منه وطرًا؛ يأتونه ثم
يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) يقول: يثوبون. رواهما ابن جرير.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، في قوله -تعالى-: (وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: يثوبون إليه ثم يرجعون.
قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير في
رواية وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطية، والربيع بن أنس، والضحاك، نحو ذلك.
وروى ابن جرير عن عبدة بن أبي لبابة، في قوله
-تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ) قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرًا.
وعن ابن زيد: (وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) قال: يثوبون إليه من البلدان
كلها ويأتونه، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى، أورده القرطبي:
جعل البيت
مثابًا لهم ليس
مـنه الدهر يقضون الوطر
وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة،
وقتادة، وعطاء الخراساني: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ)
أي: مجمعًا.
(وَأَمْنًا) قال
الضحاك عن ابن عباس: أي أمنًا للناس.
وقال أبو جعفر الرازي عن أبي العالية: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا)
يقول: أمنًا مِن العدو، وأن يحمل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يُتخطف الناس
من حولهم، وهم آمنون لا يُسْبَون.
وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع
بن أنس، قالوا: مَن دخله كان آمنا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن
الله -تعالى- يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا مِن كونه مثابة
للناس؛ أي: جعله محلًّا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا ولو
ترددت إليه كل عام؛ استجابة من الله -تعالى- لدعاء خليله إبراهيم -عليه السلام- في
قوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ) إلى أن قال: (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ
دُعَاءِ) (إبراهيم:37-40).
ويصفه -تعالى- بأنه جعله أمنًا؛ مَن دخله أَمِن،
ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل
يَلْقَى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له، كما وصفها في سورة المائدة بقوله
-تعالى-: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة:97)، أي: يرفع عنهم بسبب تعظيمها السوء كما قال ابن
عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض، وما هذا الشرف إلا
لشرف بانيه أولًا، وهو خليل الرحمن -"قلتُ:
بل الشرف؛ لأن الله شَرَّفه وحرمه قبل أن يخلق الناس، كما قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ
يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) (متفق عليه)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) (رواه البخاري)"- كما قال -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا
تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) (الحج:26)، وقال -تعالى-: (إِنَّ
أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96-97).
وفي هذه الآية الكريمة نبَّه -تعالى- على مقام
إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125)، وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام: ما هو؟
فروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال: مقام إبراهيم: الحرم كله. وروي عن
مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وروى أيضًا عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فقال:
سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكره هاهنا -أي: في هذه السورة-، فمقام
إبراهيم هذا الذي في المسجد -يعني الحجر الذي عليه القبة الصغيرة الصفراء-، ثم
قال: و(مَقَام إِبْرَاهِيمَ) يُعَدُّ كَثِير، (مَقَام إِبْرَاهِيمَ) الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال:
التعريف، وصلاتان بعرفة (الظهر والعصر)، والمشعر، ومنى، ورمي الجمار، والطواف بين
الصفا والمروة. فقلت: أفسره ابن عباس؟ قال: لا، ولكن قال: مقام إبراهيم: الحج كله.
قلتُ: أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع. قال: نعم، سمعته منه.
وروى سفيان الثوري عن سعيد بن جبير: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قال:
الحجر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل
الحجارة. ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه.
وقال السدي: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة
إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلتْ رأسه. حكاه القرطبي وضعفه، ورجحه غيره، وحكاه
الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس -(قلتُ: والراجح الأول؛ أنه الحجر الذي كان يبني عليه
إبراهيم الكعبة المشرفة)-.
وروى ابن أبي حاتم عن جابر يحدِّث عن حجة النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال: لما طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له عمر: هذا
مقام أبينا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله -عز وجل-: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) -(قلتُ: هذا لا يثبت؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثبت
في الصحيح أنه صَلَّى الركعتين مباشرة عقب طوافه)-.
وروى عثمان بن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال: قال
عمر: قلت: يا رسول الله، هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟
فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
-(قلتُ: والذي يظهر أن هذا كان سابقًا على حجة
الوداع)-.
وروى ابن مردويه عن عمرو بن ميمون عن عمر بن
الخطاب أنه مرَّ بمقام إبراهيم، فقال: يا رسول الله، أليس نقوم بمقام خليل ربنا؟
قال: بلى. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرًا حتى نزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
وروى ابن مردويه عن جابر قال: لما وقف رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله،
هذا مقام إبراهيم الذي قال الله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)؟ قال: نعم. قال الوليد: قلت لمالك: هكذا
حدثك (وَاتَّخِذُوا) قال: نعم. هكذا وقع في هذه
الرواية، وهو غريب.
وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه.
وقال البخاري: باب قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)،
مثابة: يثوبون يرجعون. حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال
عمر بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو
اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر
والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب. وقال: وبلغني
معاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض نسائه، فدخلت عليهن، فقلتُ: إن انتهيتن أو
ليبدلن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه، فقالت: يا عمر، أما في رسول
الله ما يعظ نساءَه حتى تعظهن أنت؟! فأنزل الله: (عَسَى
رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ
مُسْلِمَاتٍ) الآية (التحريم:5)" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com