الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

نعمة الأمن (1)

إن هذه النعم تتفاوت فيما بينها؛ إلا أن أعظمها على الإطلاق نعمة الإسلام

نعمة الأمن (1)
أحمد مسعود الفقي
الخميس ٠٤ مارس ٢٠٢١ - ٠٩:٠٦ ص
432

نعمة الأمن (1)

كتبه/ أحمد مسعود الفقي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد مَنَّ الله -عز وجل- على عباده بنعم كثيرة لا تُحصَى، وخيراتٍ عظيمةٍ لا تُستقصَى، فذِكْر نِعَمِه على سبيل التفصيل أو الحصر لا سبيل إليه، ولا قُدرة للبشر عليه، كما قال -تعالى-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:18).

وتفضَّل الله بهذه الخيرات وهذه النِّعَم على عباده، ووَعَدهم الزيادةَ إن هم شكَروه، وضمِن لهم بقاءها واستمرارَها إن هم أطاعوه، فقال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7).

 وإن هذه النعم تتفاوت فيما بينها؛ إلا أن أعظمها على الإطلاق نعمة الإسلام، قال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3).

ولقد أمر الله -تعالى- عباده المؤمنين، بل والناس أجمعين- أن يذكروا نعمته عليهم، ويشكروه عليها، فقال -تعالى- مخاطبًا المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) (المائدة:11)، وقال -تعالى- مخاطبًا الناس أجمعين: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) (فاطر:3).

وإن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، والتي ينبغي أن نذكرها ونُذكِّر بها، وتحتاج منا كل يوم -بل كل لحظة- إلى حمده وشكره عليها، نعمة الأمن: (الأمن الذي هو ضد الخوف، وأصله: طمأنينة النفس وزوال الخوف)، وذلك بأن يأمن الناس في أوطانهم على أنفسهم وأهليهم وأموالهم؛ تلك النعمة التي امتن الله بها على قريش، فقال -تعالى-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:3-4)، قال قتادة -رحمه الله-: "كان أهل الحرم آمنين، يذهبون حيث شاءوا، إذا خرج أحدهم فقال: إني مِن أهل الحرم لم يُتَعَرَّضْ له، وكان غيرهم من الناس إذا خرج أحدهم قُتِلَ" (تفسير الطبري).

ولما قال كفار مكة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ) أي: الحق الذي جئتنا به، ونتبرأ من الأولياء والآلهة، (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) بالقتل والسلب، ونهب الأموال، قال -تعالى-: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص:57)، أي: أَوَلم نجعلهم متمكنين في بلدٍ آمنٍ، حرَّمنا على الناس سفك الدماء فيه، يُجلب إليه ثمرات كل شيء، رزقاً من لدنا؟ ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر هذه النعم عليهم، فيشكروا من أنعم بها عليهم. (انظر: التفسير الميسر).

وحصول الأمن مطلب كل حي، وغاية كل إنسان؛ فقد دعا إبراهيم عليه السلام ربه -عز وجل- أن يجعل هذه البقعة التي ترك فيها زوجته هاجر وابنهما إسماعيل -عليهما السلام- بلدًا آمنًا، يتوافد عليه الناس، فتحسن المعيشة ويحصل الإيناس؛ إذ بالأمن تتحقق السعادة والسكينة والطمأنينة، قال -عز من قائل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا)، ثم قال: في نفس الآية: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) (البقرة:126).

قال ابن كثير -رحمه الله-:

"بدأ بالأمن قبل الرزق لسببين: الأول: لأن استتباب الأمن سبب للرزق، فإذا شاع الأمن واستتبَّ ضرب الناس في الأرض، وهذا مما يدر عليهم رزق ربهم ويفتح أبوابه، ولا يكون ذلك إذا فُقد الأمن.

الثاني: لأنه لا يطيب طعام ولا يُنتفع برزق إذا فقد الأمن".

فمَن مِن الناسِ يجد لذةً بمشروبٍ أو مطعومٍ وقد أحاط به الخوف مِن كل مكان، وتبدد الأمنُ من حياته؟! فبلدٌ لا أمن فيه كيف تستقيم للناس فيه معايشهم وأرزاقُهم؟!

وقال -تعالى- في سورة إبراهيم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم:35)، أي: ولما صارت هذه البقعة بلداً، وكثر الناس فيها، طلَب إبراهيم تحقيقَ الأمن؛ حتى تتحقَّق له عبادة الله على الوجْه الصحيح؛ فدعا ربه وقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)؛ لأن الإنسان في حال الفِتن والقلاقل يشغله الخوفُ عن عبادة ربِّه، وربما زاغَ كثيرًا عن الحقِّ.

إن الشعور بالأمن نعمة كبرى وقيمة عظمى، لا يقدرها إلا مَن فقدها؛ فبالأمن تستقيم مصالح العباد وتستتم، وبفقده تضيع الحقوق، وتضيع المصالح، ويلحق الناس الفزع في عباداتهم، فتهجر المساجدُ، ويمنع المسلم من إظهار شعائر دينه؛ وتعاق سبل الدعوة، وينقطع تحصيل العلم وملازمة العلماء، ولا توصل الأرحام، ويئن المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختل المعايش، ويتعسر طلبُ الرزق، كل ذلك إذا زالت نعمة الأمن عن المجتمع، وهناك مَن يحاولون إزاحة الأمن عن المجتمعات لأجل أن تكون الدنيا فوضى، لا سيما في بلاد المسلمين! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لذلك كان استِقرار المجتمع المسلم لا يمكن أن يتحقق، ولا يمكن أن تقوم حياة إنسانية كريمة إلا في ظلال أمنٍ وافرٍ، يطمئن الإنسان معه على نفسه وأسرته ومعاشه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وقيل لحكيم: أين تجد السرور؟ قال: "في الأمن، فإني وجدت الخائف لا عيش له!".

ولقد وقف الإسلام بحزم في وجه الذين يروعون الآمنين ويفسدون في الأرض، فقال -تعالى-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33).

كما دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى كل عمل يبعث على الأمن والاطمئنان في نفوس المسلمين، ونهى عن كل فعل يبث الخوف والرعب في نفوس المسلمين؛ حتى ولو كان أقل الخوف وأهونه، باعتبار الأمن نعمة من أجلِّ النعم على الإنسان، ولقد نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أن يُرَوِّعَ المسلمُ أخاه المسلم، فقال: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، كما نهى عن أن يُشْهِرَ السلاحَ عليه، حتى ولو كان ذلك مزاحًا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه)، بل ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أن يُخْفِيَ الإنسانُ مالاً لأخيه، ولو لم يكن بقصد الاستيلاء عليه، ولكن أراد بذلك أن يُفْزِعَهُ عليه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا، وَلَا جَادًّا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- رَبَّهُ أن يُؤَمِّنَ روعاته حيث كان يقول: (اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي) (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني)، فالخوف والروع، نقيض الأمن الذي يطلبه المسلم في دنياه وآخرته.

فالإسلام دين أمن وسلام، وتعايش مع كل خلق الله، دون ظلم أو إهدار لحقِّ أحدٍ؛ أرسى بتعاليمه وأحكامه وأخلاقياته قيمة الأمن، وجعله حقًّا لكل إنسان يعيش على أرض الإسلام، وألزم كل أفراد المجتمع على اختلاف مواقعهم بكفالة هذا الحق، فترويع الآمنين في نظر الإسلام جريمة يُعَاقَب مرتكبها بأشد العقاب، ولا يمكن أن يتحقق الأمن للناس إلا إذا أخذوا بتعاليم هذا الدِّين العظيم.

فاللهم مَسِّكْنَا بهذا الدين، لا مغيرين ولا مبدلين.

وصلِّ اللهم على النبي الأمين محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

ربما يهمك أيضاً

لا يستوون عند الله (1)
25 ٢٧ مارس ٢٠٢٤
مَن هوى فقد هوى(2)!
214 ٠٢ فبراير ٢٠٢٢
من هوى فقد هوى (1)!
121 ٢٩ ديسمبر ٢٠٢١