السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع سورة الكهف (12)

وقفات مع سورة الكهف (12)
السبت ٣١ ديسمبر ٢٠٢٢ - ١١:٢٤ ص
45

 

وقفات مع سورة الكهف (12)

كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنتابع الحديث عن سورة الكهف والتي انتقل فيها المولى تبارك وتعالى إلى ضرب الأمثال، فقال تعالى: (‌وَاضْرِبْ ‌لَهُمْ ‌مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا. وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا. فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا. أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) (الكهف: 32-43).

قال البقاعي رحمه الله: "كشف تعالى بضرب المثل أن ما فيه الكفار من الارتفاق العاجل ليس أهلًا لأن يُفتخر به؛ لأنه إلى زوال، (وَاضْرِب لَهُم) أي: لهؤلاء الضعفاء المتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين، ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم".

ومِن أغمض علوم القرآن -كما ذكر العلماء-: عِلْم الأمثال، والناس في غفلة عنه. وكان المثل: (رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ) قيل: كانا أخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر. وقيل: هما أخوان من بني مخزوم من أهل مكة. ولم يعيِّن الله تعالى الرجلين؛ لأنه ليس هناك أهمية لذلك.

قال السعدي رحمه الله: "أي: هاتان الجنتان حففناهما بأشرف الأشجار (العنب والنخل)، فالعنب في وسطها والنخل قد حف بذلك ودار به".

وقال ابن عاشور رحمه الله: "ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة".

والحف: الإحاطة بالشيء.

ثم قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)؛ لئلا يتوهم أن الانتفاع قاصر على النخيل والأعناب. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم تنقص من أكلها على خلاف ما يُعهد في سائر البساتين، ونسب الظلم لصاحبها؛ لأنه كان متكبرًا. (وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا) أي: أجرينا وشققنا وسط الجنتين نهرًا ليسقيهما دائمًا من غير انقطاع.

قال العثيمين رحمه الله: "كان خلال الجنتين نهر من الماء يجري بقوة، فكانت في الجنتين كل مقومات الحياة من أعناب ونخيل وزرع، ثم بينهما هذا النهر المطَّرِد". 

ثم ينتقل الحديث عن تفصيل ما في الجنتين؛ قال تعالى: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي: لذلك الرجل ثمر عظيم، وقد استكملت جنتاه ثمارها ولم تعرض لها آفة أو نقص؛ فإن قيل: ما الفائدة من ذكر الثمر بعد ذكر الجنتين وقد عُلم أن صاحب الجنة لا يخلو من ثمر؟ 

قال ابن الجوزي رحمه الله: "فيه ثلاثة أجوبة: الأول: أنه لم يكن أصل الأرض ملكًا له، وإنما كانت له الثمار، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما. الثاني: أن ذكر الثمار دليل على كثرة ما يملك من الثمار في الجنتين وغيرها، وهذا قول ابن الأنباري. الثالث: أن المراد بالثمر الأموال من الأنواع، وأنها الذهب والفضة".

وقوله تعالى: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ): المراد بالصاحب المعنى اللغوي، فلا ينافي القول بأنهما كانا أخوين، والمحاورة مراجعة الكلام بين المتكلمين. وقوله: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا): قال قتادة: خدمًا وحشمًا وولدًا. والعزة ضد الذل، وهي: عدد عشيرة الرجل وشجاعته، والنفر: عشيرة الرجل الذين ينفرون معه، وأراد هنا بهم الولد. قال قتادة: "والله هذه أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النَّفَرِ". 

وقوله تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ): أفرد الجنة هنا؛ لأن الدخول إنما يكون لإحداهما قبل أن ينتقل منها للأخرى. وقيل: أخذ بيد أخيه فأدخله جنته يطوف به فيها ويريه عجائبها. (وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) أي: وهو مشرك مكذب بالبعث، بطر بنعمة الله تعالى. 

قال الكافر مقالات شنيعة، وهي: قوله: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، وعندما دخل جنته متكبرًا مزهوًا ظالمًا لنفسه، قال -وقد ذبحه الغرور-: (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) ثم أتبع بقوله: (وَمَا أ َظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)؛ أنكر فناء الدنيا وفناء جنته، وأنكر البعث والجزاء، بل وسخر من صاحبه بقوله: (ولَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) أي: كما تزعم أنت؛ إن كان البعث حقًّا سيعطيني خيرًا منها، كما أعطاني في هذه الدنيا. والمنقلب المكان الذي ينقلب إليه، أي: يرجع إليه.

وهذا ما قاله العاص بن وائل لخباب بن الأرت رضي الله عنه لما أخذ ماله: "ليكونن لي مال -أي: في الآخرة- فأقضيك دينك منه!"، فنزلت فيه هذه الآية: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ ‌مَالًا ‌وَوَلَدًا) (مريم: 77).

قال ابن القيم رحمه الله: "مَن ظن بالله أنه يُنال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يُنال بطاعته والتقرب إليه؛ فقد ظن به خلاف حكمته".

وكان الرد من صاحبه المؤمن الواثق بربه: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا)، يعني: خلق أباك آدم ثم من نطفة خلقك.

قال الشوكاني رحمه الله: "أي: صيرك ذكرًا وعدَّل أعضاءك وكملك، وفي هذا تلويح على البعث، وأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة". 

وللحديث بقية إن شاء الله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة