الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الرجوع إلى الحق فضيلة (2)

الرجوع إلى الحق فضيلة (2)
الجمعة ٠٦ يناير ٢٠٢٣ - ١٥:٤٣ م
96

 

الرجوع إلى الحق فضيلة (2)

كتبه/ نصر رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدًّا، فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن مَن جهل شيئًا عاداه وعادى أهله؛ فإن انضاف إلى هذا السبب: بغضُ مَن أمره بالحق، ومعاداته له، وحسده؛ كان المانع من القبول أقوى، فإن انضاف إلى ذلك: إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومَن يحبه ويعظمه؛ قوي المانع، فإن انضاف إلى ذلك: توهمه أن الحق الذي دُعِي إليه يحول بينه وبين جاهه، وعزه وشهواته وأغراضه؛ قوي المانع من القبول جدًّا.

فإن انضاف إلى ذلك: خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه، كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ازداد المانع من قبول الحق قوة؛ فإن هرقل عرف الحق، وهم بالدخول في الإسلام، فلم يطاوعه قومه، وخافهم على نفسه، فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبيَّن له الهدى... ومن أعظم هذه الأسباب: الحسد، فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه، وأوتي ما لم يؤتَ نظيره، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟! فإنه لما رآه قد فُضِل عليه، ورفع فوقه، غص بريقه، واختار الكفر على الإيمان، بعد أن كان بين الملائكة" (هداية الحيارى).

ويعدد الإمام أبو بكر الآجري صفات العلماء، فيذكر منها: "إن أفتى بمسألة فعلم أنه أخطأ لم يستنكف أن يرجع عنها، وإن قال قولًا فرد عليه غيره ممَّن هو أعلم منه أو مثله أو دونه؛ فعلم أن القول كذلك؛ رجع عن قوله، وحمده على ذلك، وجزاه خيرًا" (أخلاق العلماء).

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني -فضلًا عن الرافضي- قولًا فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل، دون ما فيه من الحق" (منهاج السنة)

ولقد ضرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه مثلًا رفيعًا في سرعة الفيئة حين عَلِم أن مسطح بن أثاثة الذي يأكل من نفقته كان قد شارك في اتهام ابنته السيدة عائشة بحديث الإفك، فأقسم أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق عليه، ونزل قوله تعالى:

(وَلَا ‌يَأْتَلِ ‌أُولُو ‌الْفَضْلِ ‌مِنْكُمْ ‌وَالسَّعَةِ ‌أَنْ ‌يُؤْتُوا ‌أُولِي ‌الْقُرْبَى ‌وَالْمَسَاكِينَ ‌وَالْمُهَاجِرِينَ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌وَلْيَعْفُوا ‌وَلْيَصْفَحُوا ‌أَلَا ‌تُحِبُّونَ ‌أَنْ ‌يَغْفِرَ ‌اللَّهُ ‌لَكُمْ ‌وَاللَّهُ ‌غَفُورٌ ‌رَحِيمٌ) (النور: 22)، فما أن سمع أبو بكر خاتمة الآية حتى قال: "بَلَى وَاللهِ إِنِّي ‌لَأُحِبُّ ‌أَنْ ‌يَغْفِرَ ‌اللهُ ‌لِي، ‌فَرَجَعَ ‌إِلَى ‌مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا" (متفق عليه).

وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى رضي الله عنهما: " أمّا بَعدُ لا يَمنَعْكَ قَضاءٌ قَضَيتَه بالأمسِ راجَعتَ الحَقَّ؛ فإِنَّ الحَقَّ

قَديمٌ ‌لا ‌يُبطِلُ ‌الحَقَّ ‌شَيءٌ، ‌ومُراجَعَةُ ‌الحَقِّ ‌خَيرٌ ‌مِنَ ‌التَّمادِي ‌في ‌الباطِلِ. ورَواه أحمدُ بن حَنبَلٍ وغَيرُه عن سُفيانَ، وقالوا في الحديثِ: لا يَمْنَعَنَّك قَضاءٌ قَضَيتَه بالأمسِ راجَعَتَ فيه نَفسَكَ، وهُديتَ فيه لِرُشدِكَ، أن تُراجِعَ الحَقَّ؛ فإِنَّ الحَقَّ قَديمٌ، وإِنَّ الحَقَّ لا يُبطِلُه شَيءٌ، ومُراجَعَةُ الحَقِّ خَيرٌ مِنَ التَّمادِي في الباطِلِ" (أخرجه البيهقي السنن الكبرى)

وقال ابن كثير رحمه الله: "سُئِل عبد الله بن الحسن رحمه الله عن مسألة فأخطأ في الجواب، فقال له قائل: الحكم فيها كذا وكذا فأطرق ساعة، ثم قال: إذًا أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذَنبًا في الحق أحب إليَّ من أن أكون رأسًا في الباطل" (البداية والنهاية).

وقـال رحمه الله: "صَنَّف الحافظ عبد الغني كتابًا فيه أوهام الحاكم، فلما وقف عليه الحاكمُ جعل يقرؤه على الناس، ويعترف لعبد الغني بالفضل، ويشكره على ذلك، ويرجع إلى ما أصاب فيه من الرد عليه، رحمهما الله" (البداية والنهاية).

فقبول النصيحة من صفات الكمال، ودليل التواضع، فالمؤمن يستفيد من نصح إخوانه له، والمتكبر يرفض النصيحة؛ ظنًّا أن ذلك منقصة له! كان عمر رضي الله عنه يقول: "‌رَحِمَ ‌اللَّهُ ‌امْرَأً ‌أَهْدَى ‌إلَيْنَا ‌مَسَاوِئَنَا" (أدب الدنيا والدين)، فمن يقبل النصيحة يصلح أخطاءه، ويتغير للأحسن، بخلاف المتكبر الذي يزداد بكبره فسادًا وانحرافًا!

وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: "يا مزاحم، إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وإني جاعلك عيني على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بها عني، أو فعلًا لا تحبه؛ فعظني عنده، وانهني عنه" (المجالسة وجواهر العلم)

وقال رحمه الله لعمرو بن مهاجر: "إذا رأيتني قد ملت عن الحق؛ فضع يدك في تلبابي، ثم هزني، ثم قل: يا عمر، ما تصنع؟!) (تاريخ بغداد).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة