الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

التراث والتجديد من منظور السلفية (3) تطبيقات سلفية على أعمال تراثية

التراث والتجديد من منظور السلفية (3) تطبيقات سلفية على أعمال تراثية
الخميس ١٢ يناير ٢٠٢٣ - ١٦:٣٩ م
69

 

التراث والتجديد من منظور السلفية (3) تطبيقات سلفية على أعمال تراثية

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتقوم الدراسات ذات المرجعية السلفية في التعامل مع التراث عبر التاريخ على الجمع بين التصور الصحيح للإسلام كما كانت عليه القرون الخيرية، مع الوعي بواقع العصر الذي يعيشه الدارس.

ويزخر التاريخ الإسلامي عبر العصور بصور تطبيقية لدراسات سلفية لأعمال تراثية، وقد أخذت تلك الدراسات السلفية للتراث مسالك متنوعة، منها:

1- دراسات لقضايا وردت في الأعمال التراثية:  

حيث يتم تقرير القضية التي تناولها هذا العمل التراثي وَفْق صورتها الشرعية الصحيحة كما وردت في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، والاستشهاد عليها بما ورد من قبل في تراث الأمة السلفي من كتابات وأقوال السلف الصالح، وأئمة الأمة المعتبرين، ثم القيام ببيان مواقف الفئات المخالفة في تلك القضية وأدلتهم، والرد عليها، ثم يؤخذ من هذا العمل التراثي ما يوافق الصورة الشرعية ولا يضادها، ويترك منه ما كان مصادمًا للشرع ولا يوافقه.

وهذه القضايا قد تكون قضايا منهجية، ومِن أبرز صور التعامل السلفي مع القضايا التراثية المنهجية: مؤلفات ابن تيمية في الرد على كتابات مَن سبقوه مِن أئمة علم الكلام في تقديم النقل على العقل: كالرازي، والجويني، وغيرهما، يتجلَّى ذلك في كتابه: (درء تعارض العقل والنقل)، والذي بناه على تحليل القاعدة المنهجية لعلماء الكلام، وهي تقديم العقل على النقل، ثم نقدها في إطار الكتاب والسنة، ومنهج وعقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين.

وقد تكون تلك القضايا قضايا موضوعية، تتناول موضوعات عقائدية: كإثبات وجود الله تعالى، أو القول بخلق القرآن، أو الخوض في أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى. 

ومن أمثلة ذلك: كتاب: (العقيدة الواسطية) لابن تيمية، حيث يقرر القضية وَفْق صورتها الشرعية الصحيحة، ويسوق النصوص عليها، ويستشهد لها بما ورد في تراث السلف الصالح، ثم يبيِّن الفِرَق المخالفة وأدلتهم، ومِن ثَمَّ نقد أقوالهم.

ويعد ابن تيمية أبرز مَن يُقتدَى به في تناول الأعمال التراثية بالمنظور السلفي؛ إذ استوعب تراث مَن سبقوه؛ خاصة في ميادين العلم الشرعي المختلفة على كثرة ما كان فيها مِن انحرافاتٍ عقديةٍ صارت عند الكثيرين هي الأصل، وعاد معها الأصل الصحيح مستنكرًا! 

فجاء ابن تيمية؛ فقرر في كلِّ القضايا التي تناولها بالدراسة، الصورة الشرعية الصحيحة، وساق عليها النصوص وعشرات النقول عن أئمة السلف الصالح، ثم نقد بها كتابات وآراء المخالفين.

ومن أمثلة ذلك أيضًا في تناول القضايا الموضوعية: تناول ابن القيم رحمه الله لقضية (السَّيْر إلى الله تعالى بالأعمال القلبية) التي تناولها أبو إسماعيل الهروي في كتابه: (منازل السائرين) الذي سبق به ابن القيم بنحو قرنين من الزمان، وتضمن بعض البدع والشطحات الصوفية التي تأثر بها كثيرون بعده، فعمد ابن القيم إلى الدراسة التحليلية لهذا الكتاب، ونقده مِن منظور المرجعية السلفية.

وقصة الكتاب: أن أبا إسماعيل الأنصاري الهروي الصوفي المتوفى عام 481هـ (أي: في القرن الخامس الهجري) ألَّف كتابًا بعنوان: (منازل السائرين)، قَسَّم فيه طريق سير المؤمن إلى الله إلى مائة منزلة، لكلِّ منزلة ثلاثة مفاهيم: مفهوم للعوام، ومفهوم للخواص، ومفهوم لخاصة الخاصة -على طريقة الصوفية-، وقد تكلَّف في هذه المفاهيم؛ فوقع في شطحات صوفية، مع أن للهروي كتبًا سلفية وردود على المنهج الكلامي. 

فجاء ابن القيم المتوفى عام 751هـ (أي: في القرن الثامن الهجري)؛ فوجد أن بعض أهل البدع من الصوفية ممَّن يروجون لبعض البدع والشطحات الصوفية يستشهدون بكلام الهروي في كتابه: (منازل السائرين) على بدعهم وشطحاتهم؛ عندها رأى ابن القيم أن يقوم بدراسة تحليلية تفسيرية لكتاب منازل السائرين، هذا العمل التراثي في عصره، كي يغسل عن الكتاب ما فيه من وضر الصوفية، فكان كتابه: (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد إياك نستعين) في مجلداته الثلاثة.

لقد أراد ابن القيم مِن دراسته التحليلية لكتاب هذا العَالِم أن ينقذه من بعض الانحرافات المنهجية ومن التفسيرات التي حملها عليه أصحاب الشطح الصوفي، إلى تفسير يتسق مع المنهج الإسلامي في العلاقة بالله تعالى، ومع النظرة الصحيحة للحياة؛ فإذا أقبل المحبون للهروي على كتابه من خلال هذا التفسير الصحيح، كان دليلهم نحو الحق والهدى.

(ومع ذلك تبقى الموضوعية والمعيارية الشرعية هي الأصل؛ فقد يقف ابن القيم أمام عباراتٍ للهروي تأبى التفسير وَفْق المنهج الإسلامي السوي؛ فهل يتمادى إلى تأويل ما لا يحتمل التأويل بما يوافق الشرع ولو كان على حساب الموضوعية، أي: ولو كان بإسقاطٍ لا تقبله عبارة الأصل، أي: بتحريف المدلول، أو يتخذ الموقف المعاكس، وهو: أخطر؛ بأن يبرر مراد الشيخ ولو كان خلاف الحق؟! 

كلا، إن مرجعية ابن القيم السلفية تأبى عليه كلا المسلكين، فيعلنها صريحة أنه مع الحق، وأن الحق خلاف عبارة الهروي. 

ومن أمثلة ذلك: عند كلام الهروي في منزلة الرجاء: أن الرجاء وقوع في الرعونة، قال ابن القيم: شيخ الإسلام -يعني الهروي- حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل مَن عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثم نبيِّن ما فيه) (مدارج السالكين، 2/ 37 بتصرفٍ، وراجع: السلفية وقضايا العصر، ص 359). 

(ولكن هل إدانات ابن القيم السلفي لشطحات الهروي تحمله على الإدانة الشاملة لفكره كله أو للهروي نفسه؟ كلا، إنه يعترف بكلِّ ما للهروي من عِلْم حَسَن، وأفكار متسقة مع المنهج الإسلامي، والمنطق العقلي السليم، كما أنه يرجو للهروي أن يكون ما قدَّمه مِن عمل صالح وعلم نافع يكفِّر شطحاته تلك، فما وقع فيه الهروي (من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق، وصحة المعاملة، وقوة الإخلاص، وتجريد التوحيد، ولم تُضمَن العصمة لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) (مدارج السالكين 2 /39، وراجع: السلفية وقضايا العصر، ص 359- 360).

2- دراسة الشخصيات التي لتراثها أثر في حياة المسلمين:

وذلك من خلال رصد وتتبع التطور الفكري، والمؤثرات التي شكَّلت شخصيات لها تأثير في حياة المسلمين، وكذلك التعرف على المرجعية الفكرية التي تعتنقها تلك الشخصية وتسخِّر جهدها العلمي والفكري للترويج لها وخدمتها، ومِن ثَمَّ يمكن نقد عطاء هذه الشخصية وتقييمها.

وقد تناول ابن تيمية في مؤلفاته العديد من الشخصيات التي سبقته، وتأثر بها كثيرٌ مِن المسلمين في عصره، من أئمة الأشاعرة، والمعتزلة، والصوفية، والفلاسفة، حيث كان يدرس الشخصية التي يتناولها دراسة وافية من حيث مكوناتها وعناصرها المعرفية، ومواقفها الأيديولوجية وينظر في مؤلفاتها وكتاباتها، وكتابات مَن سبقوه عنها، ثم يعرضها على مرجعيته السلفية، ومِن ثَمَّ يبيِّن ما لهذه الشخصية وما عليها بدرجة عالية من الإنصاف والعدل.

- فمن أمثلة ذلك: موقف ابن تيمية من تراث أبي حامد الغزالي، الذي عاش قبل ابن تيمية بأكثر من قرن ونصف قرن، ونظرًا لثقافة الغزالي الواسعة؛ فقد أسهم في كثيرٍ مِن ميادين الفكر المختلفة من التصوف والفقه وأصوله، وعلم الكلام والفلسفة، ونال شهرة واسعة في زمانه وبعده، وما يزال، وقد انقسم الناس حوله بين معظِّم له ومعارض؛ فجاء ابن تيمية فدرس شخصية أبي حامد الغزالي دراسة تفصيلية وافية، مبينًا مصادره الفكرية، وتأثُّره في علم الكلام وأصول الفقه: بالجويني، والباقلاني، وتأثره في الفلسفة: بابن سينا، وأصحاب رسائل الصفا، ورسائل أبي حيان التوحيدي، وتأثره في التصوف بكلام أبي طالب المكي، وكلام الحارث المحاسبي.

وتناول ابن تيمية آثار هذه المصادر على شخصية الغزالي؛ فبدت متناقضة: تكفِّر الفلاسفة وغلاة الصوفية في مواضع، ثم يتأثر بأقوالها في مواضع أخرى! 

ويبيِّن ابن تيمية: كيف أسهم الغزالي في توطين التصوف والفلسفة، ودمجهما في الإسلام باستخدام عبارات إسلامية في التعبير عن مقاصد الفلاسفة، ويكشف ابن تيمية ضعف الغزالي في علم الحديث والذي أوقعه في ضعف علمي فيما يتعلَّق بالشرعيات؛ فتبنى أشياء مِن أغاليط الصوفية وترهاتهم  ! وأكثر من ذكر أحاديث وآثار ضعيفة، بل وموضوعة؛ خاصة في كتابه: (إحياء علوم الدين). 

أما عن شخصية الغزالي: (فإن ابن تيمية يعترف بذكاء الغزالي، ويرى أكبر عيوبه: جهله بالنصوص الشرعية)؛ الذي اعترف الغزالي به، (ومِن ثَمَّ عاد بعد تطوافه إلى النصوص -القرآن والسنة- يروي بها ظمأه، ويشفي بها علته؛ حتى مات وصحيح البخاري على صدره). 

وقال ابن تيمية عن الغزالي: (إنه كان طالبًا للحق وجريئًا في الوقت نفسه؛ مما جعله يقتحم مختلف الميادين، التي تؤثِّر عليه فكريًّا ونفسيًّا، ولكنه في آخر عمره أدرك أن العقل البشري في مجال العلم الإلهي سلاح مفلول ما لم يستمد من المصدر الصحيح وهو الوحي، سواء تزيَّا هذا العقل بزي فلسفة تأملية أو مكاشفات صوفية أو جدليات كلامية، ومِن ثَمَّ عاد بعد تطوافه إلى النصوص). 

ولا تخلو كتب ابن تيمية ومجموع فتاويه مِن تحليل كتب الغزالي وشخصيته، وتقويمها؛ خاصة كتاب ابن تيمية: (بغية المرتاد) فإن نصفه تقريبًا مخصص لمناقشة الغزالي كما يقول محققه موسى الدويش (راجع في ذلك: "السلفية وقضايا العصر" للدكتور عبد الرحمن الزنيدي، ص 365 - 369).  

3- الدراسة الشمولية لتاريخ تفاعل المسلمين مع الإسلام: 

وذلك بغرض التعرُّف على صور وتطورات تفاعل المسلمين مع الإسلام، والمؤثرات الطارئة عليهم عبر تاريخ الإسلام قديمًا وحديثًا، وتقييمها.

ومِن أمثلة ذلك: 

- تتبع ابن تيمية لـ(الحركة العلمية في التاريخ الإسلامي)، وما استخلصه من أن الحركة العلمية تتراجع عبر التاريخ الإسلامي حتى انتهت في العصور المتأخرة إلى وضعٍ متردٍّ على أيدي أناسٍ لم يتحروا سبيلَ الصحابة والتابعين، ولا خبرة لهم بأقوالهم وأعمالهم؛ فهم لا يعلمون إلا ما هم عليه، وما عليه مَن ينازعهم مِن الطوائف الأخرى! فلا يعرفون ما قال السَّلَف في المسائل التي يدرسونها، وذلك من خلال دراسة تاريخ العلم لدى المسلمين، والتعرف على المؤثرات الكثيرة التي أربكت سيره، وحادت به يمينًا ويسارًا؛ مِن هنا يكون العلم لدى المسلمين قابلًا للتقويم والانطلاق الحضاري من جديد، ومن هذا المنطلق قام ابن تيمية بحركته السلفية التجديدية في عصره.  

ذَكَر ابن تيمية في دراسته الشاملة للحركة العلمية في تاريخ المسلمين: أن الدِّين بدأ بالأصول من التوحيد في مكة، ولما صارت له قوة بالمدينة نزلت فروعه الظاهرة، مِن: الصلاة، والصيام، والجهاد، والواجبات والمحرمات؛ فالأصول تمد الدِّين بفروعه وتثبتها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها. 

أما ظهور البدع في الأمة: فكان في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، فكان ظهور بدعتي: الخوارج والرافضة، فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وظهر الملك، وظهر النقص في الأمراء ظهر النقص في أهل العلم والدِّين. 

وكان ملك معاوية رضي الله عنه ملكًا ورحمة، ثم جَرَت في إمرة ابنه يزيد: فتنة قَتْل الحسين بالعراق، وفتنة أهل الحرة بالمدينة، وحصار مكة، لمَّا قام فيها ابن الزبير، وبعد موت يزيد تفرَّقت الأمة؛ ابن الزبير بالحجاز، وبنو الحكم بالشام، ووثب المختار بن أبي عبيد بالعراق، وذلك في أواخر عهد الصحابة.

وظهرت بدعة القدرية والمرجئة بالتكلُّم في أعمال العباد من الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق؛ فردَّها مَن كان باقيًا مِن الصحابة مع ما كانوا يردونه من البدع. 

وفي أواخر الدولة الأموية: كان انقراض أكثر تابعي التابعين، ومع أوائل الدولة العباسية صار لكثيرٍ مِن الأعاجم ولاية للأمور، وعُرِّبَت بعض الكتب العجمية من كتب الروم والفرس والهند؛ فانتشر (الرأي) و(علم الكلام) و(التصوف)، وظهر التجهم ونفي الصفات، فكان جمهور (الرأي) في الكوفة مع ما كان فيهم من التشيع، وكثرة الكذب في الرواية، بينما كان جمهور (الكلام والتصوف) في البصرة. 

أما أهل المدينة: فلم ينحرفوا انحراف الكوفيين والبصريين؛ إلا بعضهم، بينما كان الشاميون غالبهم مجاهدين وأهل أعمال قلبية؛ لذا فكُتُب الكلام والتصوف خَرَج أصلها من البصرة، ومتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون: كأبي الهذيل العلاف، وأبي على الجبائي، وكذلك متكلمي الكُلَّابية والأشاعرة: كسعيد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري، والباقلاني، وغيرهم. 

وكذلك كتب الصوفية: كالمحاسبي، وأبي سعيد الأعرابي، وأبي طالب المكي، وقد شاركهم خلق آخرون من البغداديين والخراسانيين والشاميين، بينما كان عِلْم النبوة مِن القرآن والفقه والحديث، في الأمصار التي سكنها جمهور الصحابة: كالحرمين، والشام، والعراق؛ فمنها: القُرَّاء السبعة، وأئمة أهل الحديث، وأثبتهم كان في المدينة: كالزهري، ومالك (راجع في ذلك: السلفية وقضايا العصر، ص 369-375)

قال ابن تيمية عن الحركة العلمية بعد ذلك: (ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلام والتصوف، وغير ذلك، كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب والسنة والآثار؛ فأما المتأخرون فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون، مثل: مَن صَنَّف في الكلام مِن المتأخرين، فلم يذكر إلا الأصول المبتدعة، وأعرض عن الكتاب والسنة، وجعلهما إما فرعين أو آمن بهما مجملًا، أو خرج به الأمر إلى نوع من الزندقة. 

وكذلك مَن صَنَّف في الرأي فلم يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه، وأعرض عن الكتاب والسنة، ووزن ما جاء به الكتاب والسنة على رأي متبوعه، ككثيرٍ من أتباع المذاهب الأربعة، وغيرهم. 

وكذلك مَن صَنَّف في التصوف والزهد، جعل الأصل ما روي عن متأخري الزُّهَّاد، وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين، كما فعل صاحب الرسالة أبو القاسم القشيري، وغيره) (راجع المصدر السابق، ص 374-375 نقلًا عن مجموع الفتاوى بتصرفٍ).

- ومن أمثلة الدراسة الشمولية للتاريخ: دراسة مراحل تدوين المسلمين لتاريخ الإسلام لمعرفة مواطن الخلل في هذا التدوين، وقد بدأت كتابة التاريخ الإسلامي من خلال مدرستين كبيرتين: 

المدرسة الأولى: (مدرسة الحجاز): 

التي اهتمت بتدوين السيرة النبوية والغزوات، ورائدها: عروة بن الزبير، وتضمَّنت هذه المدرسة طبقة أبناء الصحابة: كعروة بن الزبير، وأبان بن عثمان بن عفان، ثم طبقة الزهري، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، ثم طبقة موسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي. وهي أول مدرسة لتدوين التاريخ الإسلامي، وتُعرَف بمدرسة (المغازي). 

وعن عروة أخذ الزهري؛ الذي كان واسع المعرفة بالأنساب، وعنه أخذ موسى بن عقبة، وابن إسحاق، وتلك المدرسة صاحبة أقدم وأوثق ملاحظات مدوَّنة عن عهد النبوة والغزوات، وقد جمع موسى بن عقبة بين مرويات الزهري ومروياته الخاصة في كتابه: (المغازي)، الذي ظل متداولًا لعِدَّة قرون، وعنه أخذ ابن سعد، والواقدي، والطبري.  

أما كتاب ابن إسحاق الذي جَمَع فيه مروياته؛ فلم يصل إلينا أصله، ولكن وَصَل إلينا قسط كبير منه في سيرة (ابن هشام)، بينما جاء كتاب: (المغازي) للواقدي أكثر دقة في تحقيق تواريخ الأحداث من ابن إسحاق، لكن ميوله الشيعية أثَّرت عليه في تناوله للأحداث.     

المدرسة الثانية: (مدرسة العراق في الكوفة والبصرة):

والتي اهتمت بتدريس المعارك والأنساب، وتميَّزت بجمع أخبار الأحداث المختلفة إلى جانب السيرة النبوية، ومن أبرز رجالها: أبو مخنف لوط بن يحيى الكوفي؛ الذي كان يميل تجاه العلويين ضد الأمويين، وقد تناول حروب الردة والفتوحات وأحداث الفتنة، وسيف بن عمر الذي اعتمد على روايات قبيلته تميم مع ميله للعلويين، ثم الشيعي نصر بن مزاحم الذي خاض في أخبار الجمل وصفين، ومقتل الحسن رضي الله عنه، وأورد الآثار في الحطِّ من معاوية رضي الله عنه ومَن معه.      

وقد تطوَّرت كتابة التاريخ في القرن الثالث الهجري، فتميَّزت تلك المرحلة بتدوين التاريخ على أساس التسلسل الزمني، وجمع الأحداث المتعاقبة في كتابٍ واحدٍ، وتدوين تاريخ الفتوحات، وفيه كان كتاب الطبقات لابن سعد، وظهر عددٌ مِن المؤرخين الذين كان عملهم يقوم على النقد وانتقاء المادة.

ومن أبرز هؤلاء: خليفة بن خياط الملقَّب بشباب العصفري، وله كتاب: (التاريخ)، وهو أول كتاب على النظام الحولي، أي: كتابة الأحداث التي وقعت في عام (حول) معين، ومحمد بن سعد البغدادي كاتب الواقدي "صاحب الطبقات"، وهو أول كتاب على نظام الطبقات، وأحمد بن يحيى البلاذري، وله كتابان مشهوران: (فتوح البلدان) في تاريخ الفتوحات، و(أنساب الأشراف) في الأنساب، واليعقوبي صاحب كتاب: (البلدان)، تناول فيه تاريخ ما قبل الإسلام حتى سنة 259هـ، وكان علويًّا. 

أما الطبري: فيعد قمة الكتابة التاريخية في هذه المرحلة، والذي كَتَب التاريخ العام من بدء الخليقة إلى سنة 302هـ. 

وقد تميَّزت هذه المرحلة بالأسلوب المتأنق في الكتابة بعيدًا عن مجرد السرد مع تنوع في طرق التأليف. 

 وبعد هذا النضج في تدوين التاريخ، ظهرت الكتابة الموسوعية في التاريخ، كما في "البداية والنهاية" لابن كثير، والذي استفاد كثيرًا من الطبري؛ بالإضافة إلى مصادر أخرى، وكما في مقدمة ابن خلدون، وعرفت كتب التراجم، مثل: (سير أعلام النبلاء) للذهبي، و(الوافي بالوفيات) للصفدي، و(طبقات الشافعية) للسبكي، وعرف في أواخر القرن الثامن الهجري تدوين العمران، وتسجيل الحياة الاجتماعية كما في كتاب: (الخطط) للمقريزي.

 ثم عرف الجمع بين الأدب والسياسة والسِّيَر في كتابة التاريخ، وظهرت الموسوعات المتعددة الأجزاء، ومن أشهرها: (نهاية الأرب في فنون الأدب) للنويري، ويضم أكثر من ثلاثين مجلدًا، تناول قسمًا كبيرًا منها الكتابة التاريخية، و(صبح الأعشى في صناعة الإنشاء) للقلقشندي المصري، الذي جمع الوثائق والمراسلات السلطانية في محفوظات ديوان الإنشاء الذي كان يعمل فيه إلى جانب مرويات أمهات الكتب في مختلف ميادين العلم والأدب في أربعة عشر مجلدًا (راجع في ذلك المقدمة الثانية من كتاب: "المقدمات العشر لقراءة وكتابة التاريخ"، تأليف: عبد الناصر الدياسطي)

وشهد هذا التاريخ الطويل من التدوين وجود مؤرخين قاموا بتشويه تاريخ المسلمين؛ في مقدمتهم أهل البدع والأهواء، مِن: الشيعة الرافضة، والباطنية الغلاة، والشعوبيين، وقد راجت كتاباتهم على الكثيرين، وتلقفها أعداء الإسلام في عصرنا الحاضر من المستشرقين والمبشرين، ومَن على دربهم مِن العلمانيين والقائلين بالحداثة. 

ويمكن التعرف على هؤلاء المؤرخين من خلال دراسة التراث التاريخي على منهج السلف الصالح في ضبط الرواية والإسناد، ومن خلال دراسة سيرتهم الشخصية، وما كانوا عليه من مناصرة أهل الأهواء والبدع الضالة. 

ومن أمثلة هؤلاء المؤرخين الذين شَوَّهوا بأكاذيبهم تاريخ المسلمين:

- أبو مخنف لوط بن يحيى: وهو وإن لم يصل لنا مِن كتبه شيء، لكن مروياته اعتمد عليها مؤرخون كبار بلا تمحيص: كالطبري، وابن الأثير، وقد تعدَّت رواياته في تاريخ الطبري 550 رواية؛ هذا رغم كونه شيعيًّا متعصبًا، بل هو عند الشيعة مِن أعظم مؤرخيهم، ورغم كونه عند علماء الجرح والتعديل ضعيفًا ليس بثقة؛ قال عنه يحيى بن معين: "ليس بشيء"، وقال عنه الدارقطني: "أخباري ضعيف".

وكان أبو مخنف حريصًا على تصوير الصحابة رضي الله عنهم على أنهم يتنافسون على السلطة، ويتقاتلون عليها، مشوِّهًا بذلك صورة صدر الإسلام. 

قال ابن تيمية رحمه الله: (أما جمهور المصنفين في الأخبار والتواريخ والسِّيَر، والفتن، من رجال الجرح والتعديل، فمنهم مَن هو في نفسه متهم أو غير حافظ: كأبي مخنف لوط بن يحيى، وهشام بن السائب الكلبي، وإسحاق بن بشر، وأمثالهم من الكذابين، بل الواقدي خير من ملء الأرض مثل هؤلاء، وقد عُلِم ما قيل فيه -أي: الواقدي-) (راجع: "مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري" ص 44، نقلًا عن مجموع الفتاوى لابن تيمية، 1/ 16، والمقدمة الرابعة من المقدمات العشر للدياسطي)

والواقدي وإن كان أفضل حالًا من أبي مخنف بكثيرٍ، وسارت بمصنفاته الركبان، ولا يُستغنَى عنه في المغازي؛ إلا أنه ليس بثقة؛ فهو متهم بالكذب، فيه تشيع مع تقية، يروي أخبارًا تتفق مع تشيعه؛ خَلَط الغث بالسمين، ويروي عنه مجاهيل؛ لذا فمروياته تحتاج إلى مزيد تحقيق وتدقيق.

- محمد بن السائب الكلبي: وقد ذُكِر في أمهات كتب التاريخ باعتباره من أشهر الرواة، له روايات عند الطبري؛ روى أخبار المعارك في عهد علي ومعاوية رضي الله عنهما، وفي بني أمية، منها: أخبار المختار الثقفي، وابن الأشعث، وعُرِف بالتشيع، واتُّهِم بالكذب؛ فلا يحتج برواياته. 

قال ابن حجر رحمه الله: "متهم بالكذب ورُمِي بالرفض". 

وقال ابن حبان: "سبئي". 

وقال ابن معين: "مذهبه في الدِّين ووضوح الكذب فيه، أظهر مِن أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، ولا يحل ذكره في الكتب؛ فكيف بالاحتجاج به؟!". 

وقال الثوري: "اتقوا الكلبي.

وقال ابن الجوزي: "لا يحل الاحتجاج به". 

- سيف بن عمر التميمي: له مؤلفات كثيرة، وقد اشتهر بسبب اعتماد الطبري عليه في التاريخ؛ روى الطبري عنه أكثر من 800 رواية، ويتشبث برواياته بعض المستشرقين، وهو متهم بالكذب، ووضع الأخبار المكذوبة، وقد ذكر شناعاتٍ عن أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم؛ لا يحتج بما انفرد به من الروايات. 

قال فيه يحيى بن معين: "ضعيف الحديث". 

وقال ابن حبان: "يروي الموضوعات عن الأثبات، اتهم بالزندقة، وكان يضع الحديث". 

وقال الحاكم النيسابوري: "متروك الحديث، اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط" (راجع: المصدر السابق).

وهذا كله يبيِّن مدى حاجتنا لإعادة النظر في تراثنا التاريخي، وحذف كل ما وقع فيه من تشويه أهل الأهواء قديمًا وحديثًا. 

وللحديث بقية إن شاء الله. 

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة