الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

التراث والتجديد من منظور السلفية (4) (الحداثة والتراث)

التراث والتجديد من منظور السلفية (4) (الحداثة والتراث)
الثلاثاء ٣١ يناير ٢٠٢٣ - ١٧:١١ م
81

 

التراث والتجديد من منظور السلفية (4) (الحداثة والتراث)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالحداثة مفهوم غربي (تقتضي أول ما تقتضي قطع الصلة بالماضي وآثاره لما انطبع في ذاكرة الغربيين من أشكال التخلف التي عانوها في القرون الوسطى؛ حتى أصبحوا يفرون من كلِّ ماضٍ ولو كان ماضيهم القريب، فرارهم من الموت!) (رسالة: التراث والتجديد، د. أحمد الطيب شيخ الأزهر - هدية مجلة الأزهر - عدد شعبان 1435هـ، المقدمة ص 15 بتصرفٍ يسيرٍ).

ويحرص المتأثرون بهذه الحداثة الغربية في بلادنا على قطع صلة أمتنا بتراثها بصورة صريحة مباشرة، أو بطرق فيها مواربة؛ رغم الفارق الكبير بين حالة الغرب في القرون الميلادية الوسطى وحالة أمتنا فيها، ورغم أن حالة الغرب في هذه المرحلة (لا تنطبق على ذاكرة المسلمين؛ لأن هذه القرون كانت تشهد على تحضرهم، فقد أبى بعض الدارسين إلا أن يبنوا على هذه الحالة الغربية أن الأمة المسلمة ينبغي أن تحذو في علاقاتها بتراثها وتاريخها حذو الغرب في علاقته بتراثه وتاريخه!).

(هذا إضافة إلى أن الواقع الأوروبي الذي نَتَج عنه المنهج الحداثي، كان واقع صراع مرير بيْن المفكرين والأدباء والفلاسفة من ناحية، والدِّين والكنيسة ورجالها من ناحية أخرى، وتكشف الصراع عن انتصار ساحق لرجال الأدب والفلسفة، وسموا فلسفتهم: (الفلسفة التنويرية) في إشارة صريحة إلى أن فلسفة خصومهم من رجال الدين والكنيسة فلسفة ظلام وجهل وتخبط، يجب أن تنجلي غمتها عن الناس.  

ومن هنا لم يتردد فلاسفة التنوير الغربي في أن يصدعوا بأن الفكر الحداثي يشتغل بالإنسان، وينفض يديه من (الإله) جملة وتفصيلًا، وأن العقل وحده هو المرجع وليس الوحي الإلهي، وأن الدنيا هي محور تعلُّق الإنسان وتوجهه واشتغاله، وليس الآخرة) (المصدر السابق، ص 15- 16، نقلًا عن: "روح الحداثة... المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية"، تأليف طه عبد الرحمن - المركز الثقافي العربي - المغرب 2006م، ص 189، وهذا الكتاب كتاب بالغ الأهمية في نقد الحداثيين العرب في قضية التراث).

(وأصحاب هذا التوجُّه ينطلقون من التسوية بين النص القرآني المقدس والنصوص التاريخية، ونصوص التوراة والإنجيل في خضوعها للقراءات الحداثية، غير عابئين بالفروق الدقيقة الحاسمة بين نصِّ القرآن وهذه النصوص، مِن حيث اختلاف طبيعة المصدر؛ فهو في القرآن إلهي مقدس، وفي غيره كتابات أو إلهامات مؤلَّفة ومدوَّنة، ونص القرآن الكريم لم يتعرَّض لتدخل بشري بالرواية بالمعنى، أو باستحضار الحداثة أو بالصياغة بعد موت صاحب النص أو بوحي من تأثير البيئة والواقع التاريخي، ولم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- أيُّ دور إلا نقله وتبليغه للناس كما سمعه ووعاه عن الوحي حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة.   

ثم إن النص القرآني قد توفرت له طرق عجيبة في توثيق النص وحفظه، وصيانته وخلوده، لم تتوفر لأي نص آخر من النصوص التاريخية أو الدينية أو الأدبية، أو غيرها، وهذه الفروق الكبرى هي التي سوَّغَت للغربيين أن يخضعوا هذه النصوص التي يتدخل فيها العمل البشري للقراءات الحداثية) (التراث والتجديد، المقدمة، ص 14).

وقد تنوعَّت نظرة الحداثيين العرب للتعامل في الظاهر مع التراث، مع الاتفاق على نبذه أو تغييره وتفريغه من محتواه:

- فمنهم مَن يرى أن التراث عنصر جامد معوق، وحينئذٍ يحق للمشروع النهضوي أن يبدأ من الفراغ، ويحق له أن يتجه إلى الغرب يقتبس منه ما يستطيع اقتباسه، وهضمه بلا حرج وتردد، وبلا نظر لدين وشريعة وحضارة إسلامية أو عربية.

 - ومنهم مَن حصر التراث أصولًا وفروعًا في مرحلة تاريخية منتهية.

- ومنهم مَن أحال التراث برمته إلى أصول مادية، باعتبار وحي القرآن والسنة كان نتيجة لحراك الواقع المادي، فالوحي عندهم مرتبط بالواقع الذي نزل فيه ارتباط السبب بمسببه، والعلة بمعلولها، فالواقع هو الذي يغيِّر الوحي حين يتغير، وهو الذي كان يتحكم فيه نزولًا وتغييرًا، وحذفًا وتعديلًا؛ وعليه يسلكون بالتراث في درب المذاهب المادية التي تتوقف عند حدود المحسوس، ولا تعترف بما وراء العالم المادي.

- ومنهم مَن جرد التراث مِن أخص خصائصه، وهو قداسة النص، أي: انتزاع القداسة من النصوص الأصول في التراث: القرآن الكريم والسنة النبوية، واستبدل بها ما يسمَّى عندهم بـ(تفكيك المقدس).

- ومنهم مَن لجأ إلى تطبيق علم (الهيرمينوطيقا) في تفسير النص القرآني وتأويله، والهيرمينوطيقا: علم التأويل والمدرسة الفلسفية التي تشير إلى تطور دراسة نظريات تفسير وفهم النص، في فقه اللغة واللاهوت، والنقد الأدبي؛ فينادون بأن فهم النص غير ثابت وليس نهائيًّا، وأن قراءته مفتوحة، ولا فرق في ذلك بين نصٍّ أدبي أو نص ديني! والقرآن عندهم نص لغوي تكوَّن في ثقافة عصره وظروفها وتاريخها، ولا يمكن فصله عن بيئته وثقافته التي نَزَل فيها؛ فيتساوى عندهم النص القرآني المقدس مع غيره من النصوص الأخرى في التعامل معها!

والحداثيون في ذلك كله يدعون أن التراث لا يصلح لهذا العصر، ولا بد من إعادة إنتاجه وتوظيفه عبر التجديد، وهذا التجديد يكون من خلال الاجتهاد في التعامل مع النص، وهم يطلقون حق هذا الاجتهاد لكلِّ مفكر ومثقف، حتى لو كان غير مؤهل وغير مستوفٍ لشروط الاجتهاد وضوابطه كما بيَّنها العلماء، بل زعم هؤلاء أنهم الجديرون بحركة إحياء التراث. والغاية من زعمهم أن لهم حق الاجتهاد في التعامل مع التراث، هي: تطويع التراث لمستجدات العصر. (راجع في ذلك: المصدر السابق، ص 13-17). 

ويذهب الحداثيون المصريون إلى التخلي عن عنوان: (تجديد التراث)، ويقدِّمون عليه عنوان: (التراث والجديد)؛ لأن (تجديد التراث يعني التعامل مع التراث القديم كحقيقة موضوعية قابلة للتجديد، مع المحافظة على بقاء الأصول ثابتة، كما هو الحال في كلِّ عمليات التجديد؛ بمعنى أن نفرِّق في دائرة الموروث بين ثوابت وبين متغيرات، نستبقي الأولى كما هي، وننطلق في ضوء بقائها وثباتها إلى تجديد الثانية، ونحقق من خلالهما معًا حركة التطور، أو ما يسمى: (الأصالة والمعاصرة)، لكن التجديد بهذا المعنى لا يحقق الأهداف المقصودة لمدرسة (التراث والتجديد)؛ لأن التراث في هذه المدرسة هو نقطة البدء، أما التجديد فهو إعادة تفسير التراث حسبما تقتضي متطلبات العصر وحاجاته).

فالتجديد هو الغاية، والتراث (ليس هدفًا تتحرك في إطاره إعادة البناء)؛ لذا فعندهم (أمر طبيعي أن يتجرد التراث حالتئذٍ مِن كلِّ قيمة ذاتية أو خصائص ثابتة، لا على مستوى الأصول ولا على مستوى الفروع) (المصدر السابق، ص 28-29 بتصرفٍ).

فهؤلاء لا يرون التراث هو الكتب المطبوعة، ولا هو الحقائق المستقلة القادمة من الماضي لتغير الواقع، بحيث لو شكَّل الواقع خطرًا عليها يجب الدفاع عنها في مواجهة الواقع؛ هذا عندهم مرفوض؛ لأن التراث نفسه هو تعبير عن واقع سابق كان في الماضي، فهذا الواقع السابق هو جزء من مكونات هذا التراث، والناس يحملون هذا التراث كمخزون نفسي، فهم الممثلون للتراث أو الحاملون لتأثيرات التراث، لا فارق في ذلك بين تراث شعبي من فنون الغناء والقصص الشعبية: كأبي زيد الهلالي مثلًا، وبين التراث الديني في تكوين نفسية الجماهير، فكلاهما رافد من روافد ثقافة الأمة، وعنصر مكوِّن لنسيج هذه الثقافة (وغاية ما هنالك أن هذا فن ديني وذاك فن شعبي!).

يقول د. "أحمد الطيب" شيخ الأزهر في ردِّ هذا التصور الفاسد للتراث: (إن هذه التسوية تهدف إلى تحطيم متعمد للحواجز الفاصلة في نفوس الجماهير بين جانب مقدس وجانب لا يحظى بأي صورة من صور التقديس، وإن حظي باهتمام الجماهير ولهوها به ليل نهار).

ويضيف منكرًا: (ومن الغريب حقًّا أن صاحب (التراث والتجديد) بالرغم أنه لا يكف عن دعوى أحقيته في الحديث عن الجماهير والدفاع عنها؛ إلا أنه يتناسى أن الجماهير التي يتحدث عنها قد صمم فكرها وشعورها ووجدانها، ومخزونها النفسي على رفض هذا الخلط، وأنها لا تعرف فنًّا دينيًّا بالمعنى الذي صوَّره لنا صاحب (التراث والتجديد)، وإنما تعرف دينًا له قدسيته وحرمته في القلوب، وتعي الفرق الذي يتخطاه صاحب (التراث والتجديد) بين الدِّين كحقائق إلهية وبين قصص شعبي لا ندري إن كان مصدره واقعًا أو أساطير لا تمت إلى الواقع بأدنى صلة أو سبب).

ويضيف: (ومن الغريب غير المفهوم أيضًا: أنه بالرغم من تأكيد صاحب (التراث والتجديد) على أهمية الفنون الشعبية في نفوس الأمة وخطورتها التي تضارع خطورة الدين في وعيها وثقافتها؛ فإنه يصمت صمت القبور عن (الفنون الشعبية)، ولا يرى أنها مسئولة من قريب أو بعيد عن الواقع المتردي لجماهير الأمة، بينما يعود بالتأثير كله على القسم الديني فقط من هذا التراث، ويحمله المسئولية كاملة عن كل ما أصاب أمتنا في عصرنا الحديث من جهل وفقر وتخلُّف؛ مما يؤكِّد لنا: أن التنظير بين الدين -أو القرآن الكريم- وبين الفنون الشعبية في هذا الموضع لم يكن من التحليل العلمي الذي يتسق فيه استنباط النتائج من مقدماتها، بقدر ما كان محاولة لخلخلة قدسية الدين في نفوس الجماهير ليصبح معطى تاريخيًّا قابلًا -برمته- لإعادة التشكيل، لا كمعطى إلهي فيه الثابت الذي لا يتغير، والمتغير القابل للتجديد) (المصدر السابق، ص 31 - 32).

التراث والواقع:

يرى الحداثيون أن التراثَ لا يستمد قيمته من كونه متعاليًا على الواقع الذي نحن فيه، وإنما يستمد قيمته من كونه يعكس الواقع الماضي الذي ظَهَر فيه، فالواقع الماضي الذي نشأ فيه التراث يعتبر بذاته جزءًا من ماهية هذا التراث، (والنتيجة الحتمية لهذه النظرة هي محدودية التراث في مرحلة تاريخية ارتبط بالتعبير عنها والتعامل معها، فإذا ما تخطاها الواقع وجب تغيير محاوره وإعادة تشكيلها حسب أنماط التغير الاجتماعي الجديد، حتى لو أدَّى الأمر إلى نشوء محاور تراثية جديدة تتناقض مع محاور التراث القديم) (المصدر السابق، ص 33).

فأخص وصف للتراث عند أصحاب (التراث والتجديد) أنه منحصر في قياس نبض الواقع الذي ظهر فيه، وبالتالي ينتفي وصف الثبوت والاضطراد عن التراث مع تغير الواقع وتبدله.

ويرفض هؤلاء أن يكون للتراث مفاهيم كلية ثابتة يكون لها تأثير لتساهم في حلِّ مشكلات الحياة المعاصرة وإعادة تشكيل مفاهيم الواقع الجديد، فعملية التغيير عندهم تتم لصالح الواقع الجديد لا لصالح التراث على حساب الواقع الحالي المستقر؛ لأن الواقع عندهم هو المصدر الأول والأخير لكل فكر.

قال د. حسن حنفي رائد مدرسة (التراث والتجديد) في مصر: (ليس التراث موجودًا صوريًّا له استقلال عن الواقع الذي نشأ فيه، وبصرف النظر عن الواقع الذي يهدف إلى تطويره، بل هو تراث يعبِّر عن الواقع الأول الذي هو جزء من مكوناته) (المصدر السابق، ص 34 نقلًا عن كتاب: "التراث والتجديد"، د. حسن حنفي، ص 13).

وقال أيضًا: (ليس التراث مجموعة من العقائد النظرية الثابتة والحقائق الدائمة التي لا تتغير، بل هو مجموعة تحقيقات هذه النظريات في ظرفٍ معينٍ، وفي موقف تاريخي محددٍ، وعند جماعة خاصة تضع رؤيتها، وتكوِّن تصوراتها للعالم) (المصدر السابق)، ويجمل ذلك بقوله: "إن الواقع هو المصدر الأول والأخير لكلِّ فكرٍ) (المصدر السابق).

وهذا يعني بوضوح أن التراث يعود إلى مصدر مادي هو الواقع الذي نشأ فيه، وعليه:

- فالتراث الإسلامي القديم ارتبط بواقعه الذي نشأ فيه زمانًا ومكانًا ارتباطًا عضويًّا.

- أن الواقع هو مصدر التراث، والتراث جزء من الواقع.

- التراث ليس حقيقة موضوعية دائمة، وإنما تعبير عن موقف تاريخي محدد، وعن تصور معين لجماعة خاصة.

وعلى هذا التفسير والفهم للتراث عندهم (يصبح من اللازم وقد تغيَّر الواقع مرارًا عديدة أن يكون لنا الآن تراث مختلف يعبر عن واقعنا الذي نعيش فيه، وأن يكون تراثنا القديم المرتبط مرحليًّا بواقع مضى وتولى قد ذهب هو الآخر مع واقعه الذي تخطاه التاريخ) (المصدر السابق، ص 35)، وهكذا يفرض على تراثنا الإسلامي أوصاف وأحكام تضاد حقيقة هذا التراث.

ويصل الشطط بهؤلاء إلى تصور أن وجود أسباب نزول للآيات ووقوع نسخ لبعض أحكام الشريعة في عهده -صلى الله عليه وسلم- يؤكِّدان تبعية التراث للواقع في زمنه، وارتباط التراث بالواقع قوة وضعفًا.

يقول رائدهم: (ما عَبَّر عنه القدماء باسم أسباب النزول؛ لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر ومناداته له، كما أن ما عبَّر عنه القدماء باسم الناسخ والمنسوخ ليدل على أن الفكر يتحدَّد طبقًا لقدرات الواقع وبناءً على متطلباته؛ إن تراخى الواقع تراخى الفكر، وإن اشتد الواقع اشتد الفكر).

وقال: (نزل الوحي حسب متطلبات الواقع، أو كما يقول علماء الأصول: طبقًا لأسباب النزول، وتبعًا لإمكانيات تقبُّله، وكثيرًا ما كان الوحي يعدل حسب الواقع كما يقول بذلك علماء النسخ) (المصدر السابق).

وبذلك تحول الوحي عنده إلى مقترحات وحلول من الأفراد أو الجماعة، أو فرض من الواقع أيدها الوحي، وكأن لكل آية في القرآن سبب نزول، وأن نزول كل آية جاء عقب سبب من الأسباب لتأييد الواقع وإقراره.

وهذا مما لا يعرفه تراث الإسلام ويأباه، فمعلوم أن نزول الآيات كان على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال. وهناك آيات ذكر لها المفسِّرون أكثر من سبب للنزول، وأحيانًا تكون هذه الأسباب المذكورة متضاربة، فيعد البعض ذلك الاختلاف من تفسير الآيات لا مِن أسباب النزول؛ خاصة مع توسُّع البعض في تلمس أسباب النزول، ولهذا كان المعوَّل عليه في معرفة الوقائع التي تعد أسبابًا حقيقية لنزول بعض الآيات، هو مدى صحة الرواية وثبوتها.

ويدل على بطلان ما يذكره الحداثيون:

- إنه (ليس صحيحًا ما يُقَال من أن أسباب النزول استوعبت الكتاب الكريم وتحكمت في نزوله، وأن القرآن نزل طبقًا لهذه الأسباب وتبعًا لمتطلبات الواقع، بل الصحيح المتعارف عليه هو أن قدرًا كبيرًا جدًّا من القرآن الكريم نزل ابتداءً بلا أسباب أو مقتضيات من الواقع؛ بمعنى أن هذا القدر الكبير لم يكن إجابة عن أسئلة أو ردود فعل لمثيرات معينة أثارها واقع المجتمع المكي أو المدني في عصر الرسالة) (المصدر السابق، ص 41).

 - إن (آيات التوحيد لم ترتبط في نزولها بسبب ولا مقتض ولا باعث من الواقع، بل نزلتْ أساسًا لتدمير واقع المجتمع الجاهلي ولتنشئ على أطلاله مجتمعًا من نوع آخر).

قال الشيخ محمد عبده: (إن سبب النزول إنما يحتاج إليه في آيات الأحكام؛ لأن معرفة الوقائع والحوادث التي نزل فيها الحكم تُعِين على فهمه، وفِقْه حكمته ويسره... وأما الآيات المقررة للتوحيد، وهو المقصود الأول من الدِّين؛ فلا حاجة إلى التماس أسباب لنزولها، بل هي لا تتوقف على انتظار السؤال) (المصدر السابق، ص 41 - 42 نقلًا عن تفسير المنار لرشيد رضا، 2/ 56).

 - إن كتب أسباب النزول (لم تقدِّم لنا سبب نزول لكل آية، وهذا وحده كافٍ في دحض المقولة التي تُخضِع القرآن للواقع، وتربطه به اشتدادًا وضعفًا، وإمكانًا للقبول أو الامتناع. وحسبنا دليلًا أيضًا: الأمثلة العديدة التي يجدها قارئ (أسباب النزول) للواحدي، والتي يربط فيها بين نزول الآية وبين ما يعد من التفسير، لا من أسباب النزول، ويدخل تحت هذا النوع العشرات مما سموه: أسبابًا للنزول، فسبب النزول كما يعبِّر الشيخ رشيد رضا: (ليس أكثر من فهم للمروي عنه في الآية، ورأي في تفسيرها يخطئ فيه ويصيب، ولا يلزم أحدًا أن يتبعه فيه، بل لمن ظهر له خطؤه أن يرده عليه، ولا سيما إذا كان ما يتبادر من معنى الآيات يأباه) (المصدر السابق، ص 42 - 43 بتصرفٍ، وتفسير المنار، 5/ 320).

- فقول بعض السلف عن آية: "إنها نزلت في كذا" يُرَاد به أنها تضمنت هذا الحكم؛ يقول الزركشي في (البرهان في علوم القرآن) (1/ 32-33): (عرف من عادة الصحابة والتابعين أنه إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا؛ فإنه يريد أن الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها) (المصدر السابق، ص 49، نقلًا عن الإتقان 1/83، وأيضًا: التحرير والتنوير لابن عاشور، 1/50). 

- إن القاعدة الأصولية المتفق عليها: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (تنسف من الجذور محاولة ربط القرآن بالواقع ربط معلول بعلة؛ إذ في ضوء هذه القاعدة لا يصح الوقوف بمحتوى الآية عند حدود الحادثة التي نزلت الآية في جوها، بل تتخطى دلالة الآية بما هي خطاب إلهي حدود المكان والزمان التي أحاطت بتنزلات الآيات القرآنية) (المصدر السابق، ص 43).

يقول د. أحمد الطيب ردًّا على ضلالات حسن حنفي: (إن الحقيقة البسيطة التي يعلمها الأستاذ إذا التزم بمنطق هذا التراث -أصولًا وفروعًا- هي: أن القرآن الكريم موجَّه للواقع ومؤثِّر فيه وحاكم عليه، بقطع النظر عما صاحب نزول بعض الآيات أو تقدَّم على نزولها من ظروف وملابسات، وأنه ليس من الحوادث أو الوقائع بعلة في نزول شيء من القرآن؛ بمعنى أنه كلما افترضنا عدم حدوث السبب؛ فلا بد من أن نفترض معه ضرورة انقطاع هذه الآية أو تلك، أو احتجابها عن النزول، فمثل هذا التفكير قلب لأبسط قواعد فهم القرآن رأسًا على عقب، ولا يمكن الجمع -بحال من الأحوال- بين القول بأن القرآن وحي من الله تعالى والقول بأن القرآن جزء من الواقع أو مدلوله؛ اللهم إلا إذا كان القصد الخفي وراء هذه المتناقضات هو استبعاد القرآن الكريم من أن يكون عنصرًا مقومًا في مشروع النهضة والتجديد) (المصدر السابق، ص 44).

ويضيف: (وأن القول باختصاص القرآن بالواقع الذي نزل فيه فوق أنه افتئات على الحقيقة التي يعرفها المسلمون جميعًا هو قول لا يمكن أن يقول به عاقل).

وفي هذا المعنى قال ابن تيمية: (وقد يجيء كثيرًا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا... فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس إن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحدٌ من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرًا أو نهيًا لذلك الشخص ولغيره ممَّن كان في منزلته، وإن كانت خبرًا بمدح أو ذم؛ فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممَّن كان بمنزلته أيضًا) (المصدر السابق، ص 45-46، نقلًا عن مجموع الفتاوى، 13/ 181-182، وانظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، 1/ 85).

ويؤكِّد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وهو أحد أئمة تفسير القرآن الكريم في العصر الحاضر، على هذا المعنى الواضح فيقول: (فإن القرآن جاء هاديًا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح، فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام) (المصدر السابق، ص 46، نقلًا عن التحرير والتنوير لابن عاشور، 1/ 46).    

صاحب التراث والتجديد يناقض نفسه:

والأعجب والأغرب أن يناقض هذا الكاتب نفسه كلامه الذي ذكره في مواضع أخرى من كتاباته، فيقرر خلاف ما قال من قبل، فيقول: (لا يهمنا في تفسير الآيات القرآنية الرجوع إلى الوقائع التاريخية المحددة التي كانت وراء أسباب النزول، فذلك يهدف فقط إلى ضبط معاني الآيات) (راجع المثقفون العرب والتراث، لجورج طرابيشي، ص 109، نقلًا عن كتاب: في اليسار الإسلامي، لحسن حنفي، ص 100).

وقال مبيِّنًا الظواهر الإيجابية -في علومنا العقلية في رأيه- أنها تلك التي (تصدر من النص الديني بعد فهمه أو تفسيره، دون أن يكون لها بقايا يرجع أصلها إلى التاريخ أو إلى بيئة ثقافية أخرى) (المصدر السابق نقلًا عن اليسار الإسلامي، ص 43).

 وقد خصص جورج طربيشي قسمًا كبيرًا من كتابه: (المثقفون العرب والتراث) لتحليل تناقضات مدرسة التراث والتجديد في الموقف المنهجي، والموقف من القضايا والوقائع، والنصوص والأشخاص. (راجع الكتاب، ص 105- 127).

بينما يعلِّق فؤاد زكريا على تناقضات مدرسة التراث والتجديد بقوله: (وإذا فرضنا أن مؤرخًا أراد في المستقبل أن يحدد الموقف العام لحسن حنفي من هذه المسألة، فهل سيظل هذا المؤرخ بقواه العقلية سليمة بعد أن يتراقص مع كاتبنا في حلقة المتناقضات الجنونية التي تدور فيها معالجته للموضوع؟!) (انظر: التراث والتجديد، د. أحمد الطيب، هامش ص 52، نقلًا عن: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، ص 57).  

ومن إشكاليات صاحب مدرسة التراث والتجديد أيضًا: أنه نَسَب ما عليه المسلمون من سلوكيات خاطئة إلى التراث وتأثيراته العميقة! فالتراث فيما يراه (هو العلة الحقيقية لكلِّ مشكلاتنا المعاصرة التي ظهر فيها عجزنا وانحطاطنا، وتخلفنا فيما نعانيه الآن من اللا مبالاة والسلبية، والتواكل هو أثر الإيمان بالقضاء والقدر في التراث!)، فشاء (عامدًا أو متغافلًا أن يزيل الحدود والحواجز في خطة التجديد بين هذه الأصول كثوابت، وبين سلوكيات وتفسيرات خاطئة التصقت بالتراث الإسلامي، وحُسِبت عليه ظلمًا وعدوانًا)؛ فيقرر صراحة -أو ضمنًا-: أن التواكل والسلبية واللا مبالاة من آثار الإيمان بالقضاء والقدر، فـ(يخلط الأوراق في أذهاننا إلى الحدِّ الذي يحدثنا فيه عن ممارسات خاطئة لمفاهيم صحيحة، وهو يظن أنه يحدثنا عن عيوب في المفاهيم ذاتها!)، (في تعميم كاسح من شأنه أن يثير ريبة وشكًّا في جدية المشروع بأكمله) (المصدر السابق، ص 57، 58 بتصرفٍ).

وهكذا لم يشأ (أن يفرِّق بين ما هو أصيل وصحيح ومطلوب، وبين ما هو طفيلي وزائف ومطلوب القضاء عليه في تجديده للتراث، والسبب في هذا الخلط) أنه (لم يرَ مِن تراثنا القديم في هذا الموضع إلا سلوكيات معاصرة، ثم راح يحاكمها بهذا التراث نفسه، مع أنه أول مَن يتيقَّن أنها تطبيقات سيئة للتراث وليست تراثًا، وأن محاكمة المبدأ بتطبيقات تنحرف عن المبدأ نفسه ليست من البحث العلمي المنصف في شيء؛ اللهم إلا إذا اعتبر) (مشروع التجديد أن المحتوى الداخلي للتراث ليس إلا السلبية، والنفاق والخنوع!) (المصدر السابق، ص 59 بتصرفٍ). 

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة