الجمعة، ١١ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٩ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

وقفات مع حديث السحابة (3)

وقفات مع حديث السحابة (3)
الخميس ٠٢ فبراير ٢٠٢٣ - ٠٨:٤٩ ص
54

 

وقفات مع حديث السحابة (3)

كتبه/ محمد سعيد الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فما زلنا مع وقفات حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَما رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ؛ فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ؛ فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ) (رواه مسلم).  

لَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ صوتًا في السَّحابَةِ؛ انطلق خلفَهَا ليعرف مُستقرَّها، ثم نزل المطر وجَرَى الماء حتى وَصَلَ إلى حديقةٍ فيها فلاحٌ قائمٌ، يوزِّعُ الماءَ بِمِسحَاتِهِ، ثم حدث ما يلي: قال -صلى الله عليه وسلم-: (فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ).

لَمَّا اتّجه الرَّجُلُ إلى المزارع الصالح وسألَهُ عن اسمه، فكان ذاتُ الاسم الذي سمعه في السَّحابة؛ كان مِن الطبيعي أن يستغرب صاحب الحديقة من السؤال، فبادَرَهُ قائلًا: "يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟"، فقصَّ عليه الرَّجُلُ ما سمعه وَرَآه مِن شأن السَّحابة، فقال: (إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ) الذي ذَكَرْتَ لي؛ فإذًا أمرُ حديقتك هذه أمرٌ غريبٌ، وشأنُها شأنٌ عجيبٌ.

وهنا يمكنُ أن نستخرِجَ عدَّةَ فوائد، وهي:

1- أنَّ الشخص الذي لم يُعرَف اسمُهُ يُنادَى بـ(عبد الله)، وفي قول الرَّجُلُ: "يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟"، وقول الآخر: "يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟"، دليلٌ على أنَّ الشخص الذي لم يُعرَف اسمُهُ يُنادَى بـ(عبد الله)، فلا تقُل: (يا... وتسكُت) أو (أنت يا... وتسكُت)؛ هذا ليس مِن الأدب الشرعيُّ.

2- جوازُ الإخبار بالكرامة مع أمْنِ الفتنة: لا بأسَ بإخبارِ الشخص عن كرامةِ الله له إذا كان يُؤمَنُ عليه مِن الفتنةِ؛ فمِن بابِ البِشَارةِ يُقالُ له: حصَلَ كذا وكذا مِن الأشياءِ الصالحةِ، أو النِّعم، أو الكرامات التي أكرمَهُ اللهُ بها.

3- أنَّ العبدَ الصالحَ يُرزق مِن حيثُ لا يحتسبُ: فهذا الرَّجُلُ المتصدِّقُ رُزِقَ بأمرين: رُزِقَ مِن ماء السماء، وَرُزِقَ بِمَن يُخبِرُهُ بما يدُلُّ على مكانتِهِ عند الله، ولو شاءَ اللهُ لَمَا هيَّأ له هذا الرَّجُلَ ليُخبِرَهُ بما حدَثَ. ويشبِهُ ذلك: ما حَصَلَ مع الرجل الأمين صاحب الخشبة؛ فإنَّ اللهُ -عز وجل- أراد أن يُعلِمَهُ بما حَصَلَ لهُ من كرامةٍ.

4- يَصِحُّ أن يكون للوليِّ أموالٌ وممتلكاتٌ: قال القرطبيُّ -رحمه الله-: "وَهَذَا الحَدِيثُ -أي: حديثَ السَّحابةِ- لا يُنَاقِضُهُ قَولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَتَّخِذُوا ‌الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ فَإِنَّهُ مَحمُولٌ عَلَى مَنِ اتَّخَذَهَا مُستَكثِرًا أَو مُتَنَعِّمًا وَمُتَمَتِّعًا بِزَهرَتِهَا، وَأمَّا مَن اتَّخَذَهَا مَعَاشًا يَصُونُ بِهَا دِينَهُ وَعِيَالَهُ؛ فَاتِّخَاذُهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ مِن أَفضَلِ الأعمَالِ، وَهِيَ مِن أفضَلِ الأَموَالِ".

5- الحمدُ والثناءُ على المؤمنِ بُشرَى تعجَّلها الله -عز وجل- له: إذا كان هذا الرُّجلُ الصالح قد نَالَ مِن خير تلك السَّحابة وبركاتها؛ فتلك عاجِلُ بُشرَاهُ في الدنيا؛ كما في صحيح مسلمٍ عَن أَبِى ذَرٍّ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (تِلْكَ ‌عَاجِلُ ‌بُشْرَى الْمُؤْمِنِ)، أي: عُنوَانُ الخيرِ له، ودليلٌ على رِضا اللهِ عنه وحبِّهِ له، أمَّا في الآخرةِ فَمَا أعدَّهُ اللهُ له مِن ألوان الكَرَامةِ أعظمُ وأعظمُ.

وللحديث بقية إن شاء الله.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة