الجمعة، ٢٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الكبائر (8) الانتحار (موعظة الأسبوع)

الكبائر (8) الانتحار (موعظة الأسبوع)
الخميس ١٦ فبراير ٢٠٢٣ - ١٣:٠٠ م
64

 

الكبائر (8) الانتحار (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- قَتْلُ الإنسان نفسه (الانتحار)(1) من الكبائر العظام، والجرائم الجسام؛ لأنه ورد في حقه الوعيد الشديد، فهو متعدٍّ على حقِّ الله بأنه المالك الخالق المتصرف بما يشاء: قال الله -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29-30)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌كَانَ ‌بِرَجُلٍ ‌جِرَاحٌ، ‌فَقَتَلَ ‌نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ) (رواه البخاري).

- الإشارة إلى أن الانتحار صار ظاهرة في هذه الأيام، والأعجب أنها تسرَّبت إلى بلاد المسلمين الموحدين، متأثرين بالنعرات الغربية، حتى وصل الأمر إلى اعتبار المنتحرين رموزًا لقضايا عظيمة القيمة! (أيقونة الثورة التونسية كما يقولون، شاب منتحر! - وغيره كثير...!).

موقف الإسلام من الانتحار:

- عَظَّم الإسلام من حرمة النفوس، وحذر من الاعتداء عليها بالإتلاف والإفساد: قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29-30).

- ورتب على ذلك العقوبة الشديدة التي قد تصل إلى الكفر والخلود في النار في بعض المنتحرين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌قَتَلَ ‌نَفْسَهُ ‌بِحَدِيدَةٍ ‌فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) (رواه مسلم). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَنْ ‌قَتَلَ ‌نَفْسَهُ ‌بِشَيْءٍ ‌فِي ‌الدُّنْيَا، ‌عُذِّبَ ‌بِهِ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).

- فالمنتحر لعظم جرمه مستحق لدخول النار ولو كان في ظاهره يحمل قضية شريفة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ)، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الَّذِي قُلْتَ لَهُ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِلَى النَّارِ)، قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ فَقَالَ: (اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: (إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ ‌لَيُؤَيِّدُ ‌هَذَا ‌الدِّينَ ‌بِالرَّجُلِ ‌الْفَاجِرِ) (رواه البخاري).

من أسباب ظاهرة الانتحار:

- الإحصائيات في الجملة تشير إلى أن 35% من حالات الانتحار ترجع إلى أسباب عقلية ونفسية، وأن 65% ترجع إلى أسباب اجتماعية وحياتية، وأن أسباب ذلك كثيرة متنوعة، وسنقف على أبرزها:

1- الفشل بأنواعه:

كالفشل المالي في سداد الالتزامات المالية، أو التعرض للخسائر التجارية، أو الفشل العاطفي، أو الفشل الدراسي، أو الفشل الاجتماعي الأسرى، أو الفشل المهني: كتأمين وظيفة كريمة، ونحوه.

2- المشاكل الاقتصادية:

كالفقر والبطالة، وعدم الحصول على فرصة عمل على الرغم من الحصول على الشهادات والمؤهلات، أو فقدان الوظيفة أو المسكن؛ لا سيما إذا كان مصحوبًا بقهر أو ظلم من الآخرين.

3- المشاكل الأسرية:

ككثرة النزاعات بين الوالدين، أو العيش في بيئة اجتماعية قاسية التعامل مع المنتحر: كزوج أم، أو زوجة أب قاسيين، وكحالات الزنا أو الاغتصاب، وخشية العار.

4- المشاكل الصحية الخطيرة:

كإدمان المخدرات، أو الأمراض القاتلة المؤلمة التي تشتد المعاناة معها؛ لا سيما إذا وافق ذلك فقرًا وحاجة.

5- الإعلام العصري المنفتح على العالم بكلِّ ما فيه من شرور:

تعتبر نسبة الانتحار في الغرب والبلاد المتحللة من الدِّين هي النسبة الأكبر، وبسبب الإعلام تنتقل العدوى بالتقليد إلى ضعاف الدِّين والإيمان في بلاد المسلمين.

علاج ظاهرة الانتحار:

تتلخَّص الوسائل التالية في العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه، الذي جاء بسعادة البشرية لو أنها التزمتها: قال -تعالى-: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 6).

1- ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر في النفوس والقلوب: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51). وعَنْ أبي هُريرةَ -رضْيَ اللهُ عنه- قالَ: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعْجَزْ، وإنَّ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَان كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قدَرُ اللهِ ومَا شَاءَ فَعَل، فإنَّ (لَوْ) تَفتحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) (رواه مسلم).

2- الصبر على الأقدار المؤلمة، بمطالعة فضل ذلك في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155-157).

3- حسن الظن بالله وعدم اليأس وانتظار الفرج؛ فان أشد ساعات الليل ظلمة ما تكون قبيل طلوع الفجر بالنور والإشراق: قال -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5-6)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا ‌مِنْ ‌رَوْحِ ‌اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ ‌مِنْ ‌رَوْحِ ‌اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87) وفي الحديث القدسي يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: (أَنَا ‌عِنْدَ ‌ظَنِّ ‌عَبْدِي بِي) (متفق عليه)، وفي رواية: (أَنَا ‌عِنْدَ ‌ظَنِّ ‌عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا ‌شَاءَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وقال الشاعر:

ولـرب نازلة يضيـق بها الفتى                ذرعًا وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها                فـرجت وكان يظـنها لا تفرج

صور مشرقة في حسن الظن بالله وانتظار الفرج:

- موسى -عليه السلام- يرد على مَن ضعف ظنهم بالله: قال -تعالى-: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 61-62).

- أيوب -عليه السلام- المثل الرائع في الصبر على كل ألوان البلاء: (المال - الصحة - موت الذرية - الفقر - هجر الناس - ...)، وانتظار الفرج سنين طوال: قال -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: 83-84).

4- الإكثار من الصلاة والذكر والدعاء: قال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة: 45-46) وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وعن حذيفةَ -رضي الله عنه- قالَ: "كانَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

خاتمة:

- لقد أجمع علماء الإسلام على أن الانتحار كبيرة من أشد الكبائر، وأن صاحبه متوعد بالعذاب الطويل في النار، بل قد لا يخرج من النار أبدًا إن قتل نفسه يأسًا وقنوطًا من رحمة الله -سبحانه وتعالى-، واستحلالًا للانتحار، وعدم إيمانٍ برحمة الله؛ لأنه بذلك يكون قد كَفَرَ، وخرج من الملة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌كَانَ ‌بِرَجُلٍ ‌جِرَاحٌ، ‌فَقَتَلَ ‌نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ).

فاللهم فرِّج هم المهمومين، وكرب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وردَّ عنهم كيد الشياطين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الانتحار: هو قتل الإنسان نفسه، أو إتلاف عضو من أعضائه يؤدي إلى موته، كالشنق أو الحرق، أو تناول السموم، أو الجرعات الكبيرة من المخدرات، أو قتل نفسه بمأكول أو مشروب يؤدي إلى الموت، لأسباب يعتقد صاحبها معها أن مماته أصبح أفضل من حياته.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة