الخميس، ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (106) دعوة إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (10)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (106) دعوة إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (10)
الاثنين ٢٧ فبراير ٢٠٢٣ - ١٨:٣٢ م
98

 

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (106) دعوة إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (10)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين َ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

قوله -تعالى-: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فيه فوائد:

الفائدة الأولى:

تقدَّم كلام الإمام ابن كثير -رحمه الله-، أن قوم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كانوا يعبدون الكواكب، فأراد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن لهم بطلان عبادتها وعدم صلاحيتها للإلهية، وبيَّن ذلك بأمورٍ متتابعة؛ مَن تأملها جزم بأن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان مُنَاظِرًا لقومه يريد أن يقيم عليهم الحجة، فبيَّن لهم الأمر الأول في الكوكب -وهو الزهرة كما قالوا، أو غيرها-، وهو: الأفول والغياب.

الفائدة الثانية:

قوله: (هَذَا رَبِّي) معناه -على القول الصحيح-: أنه كان مناظرًا، وأنه نوع من التعريض؛ أي: أهذا ربي؟! أي: أهذا يصلح للعبادة؟! بحذف أداة الاستفهام، ويكون الغرض عنده هو الاستنكار، والغرض الذي يفهمونه هو التفكر في صلاحية الكوكب للعبادة، فإذا تبيَّن أنه لا يصلح بطلت عبادته وعبادة غيره من الكواكب، وهذا حقيقة التعريض، وهو: أن يقول الإنسان كلامًا يقصد به معنى صحيحًا في نفسه ويفهم السامع منه غير ذلك، وهو نوع كذب، لكنه إذا اقترن به غرض شرعي صحيح لم يكن كذبًا محرمًا.

وهذا معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة الطويل: "لستُ لها، لستُ لها، إني كذبتُ ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله"، وذكر منها قوله عن الكوكب: "هذا ربي"؛ فقد قصد معنى صحيحًا، وهو: الاستنكار، وفهموا هم غير ذلك؛ لأجل أن تقوم عليهم الحجة ببطلان هذه الآلهة.  

الفائدة الثالثة:

حاجة العابد إلى محبة إلهه ومعبوده على الدوام، لا يستطيع أن يتركها وقتًا من الأوقات، وأصلا العبادة: الحب والخضوع؛ فكيف يستغني عن محبته وعبادته فترة أفوله وغيابه دون أثر لوجوده؟!

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: "الفوائد": "اعلمْ أنّ قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلهًا حقًّا؛ إذ الإله الحق لا شريك له، ولا سمي له، ولا مثل له، فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها؛ إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار، ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في بقائها وصلاحها إلى إلهين متساويين.

إذا عُرِف هذا؛ فاعلم أن حاجةَ العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا في محبته، ولا في خوفه ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل له، والتعظيم والسجود والتقرُّب، أعظم مِن حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تُقَاس به؛ فإن حقيقةَ العبد روحُه وقلبُه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحًا فملاقيته، ولا بد لها مِن لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه، وإكرامه لها، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل، لم يدم له ذلك، بل ينتقل مِن نوعٍ إلى نوعٍ، ومِن شخصٍ إلى شخصٍ، ويتنعم بهذا في وقتٍ ثم يتعذَّب به ولا بد في وقتٍ آخر (قلتُ: قال الله -عز وجل-: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ? إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55).

 وكثيرًا ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك، وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه، فهي تدمي الجلد وتخرقه، وتزيد في ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذَّب به القلب من محبة غير الله، وهو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب، والعاقل يوازن بين الأمرين، ويؤثر أرجحهما وأنفعهما، والله الموفق المعين، وله الحُجَّة البالغة، كما له النعمة السابغة.

والمقصود: أن إلهَ العبد الذي لا بد له منه في كلِّ حالة، وكل دقيقة، وكل طرفة عين؛ فهو الإله الحق الذي كلُّ ما سواه باطل، والذي أينما كان فهو معه، وضرورته إليه وحاجته إليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة، بل هي فوق كل ضرورة وأعظم من كل حاجة؛ ولهذا قال إمام الحنفاء: (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ). والله أعلم) (انتهى من كتاب الفوائد).

وهذا الذي ذكره ابن القيم في فقر العبد إلى الله إلهًا معبودًا محبوبًا، لا يستطيع أن يغيب في صلاح حالة عن محبة إلهه ومعبوده طرفة عين؛ حتى وهو نائم، فهو ينام على حبِّه ويستيقظ على ذكره، ولا نجاة لقلبه وحياة هذا القلب إلا بالله -عز وجل-؛ ولذلك بيَّن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أن تعلق إبراهيم بإله غير الله: كذلك النجم، ومثله غيره من الكواكب والنجوم، والشمس والقمر، لكنه يعدد في كلِّ مَثَل شيئًا تبطل به عبادة هذا وعبادة أمثاله؛ ذلك أنها لا تصلح لتعلق القلب بها كل لحظة وكل طرفة عين، ولا تصلح أن ينامَ العبدُ على حبِّ هذه الأشياء، ولا أن يستيقظ بذكرها؛ فإن ذلك يضره أعظم الضرر؛ خاصة أنه إذا استيقظ فوجدها غائبة؛ فكيف يحبها؟! (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)، لا أحب الغائبين.

وقد يتصور عبدٌ أن المؤمن إيمانه بالله على الغيب قد يكون كذلك، فهو لا يرى ربه -سبحانه-؛ ولذا قلنا في أول كلامنا: أنه يغيب دون أثرٍ لوجوده، أما الله -عز وجل- فهو غيب، لكن أدلة وجوده في كل لحظة، بل نوم العبد واستيقاظه، وحياته وموته مِن أدلة وجوده، كما قال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (‌رَبِّيَ ‌الَّذِي ‌يُحْيِي ‌وَيُمِيتُ) (البقرة: 258)، وتدبير الكون في وجود البشر وغيابهم من أدلة وجوده، وربوبيته وقيوميته لهذا العَالَم وإيجاده له من العَدَم من أعظم أدلة وجوده، (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ . أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور: 36-37).

ولذلك يظل العبد المؤمن مفتقرًا إلى الله إلهًا محبوبًا، كما افتقر إليه في أصل وجوده واستمرار بقائه، واستمرار حياة بدنه؛ فكذلك لا بد له مِن تألهه وعبادته، ومحبته، والخضوع له؛ حتى يستمر قلبه حيًّا يقظًا، ذاكرًا غير غافل، لينًا غير قاسٍ؛ فلذلك يحتاج إلى عبادته كلَّ لحظة، وإنما الصلوات الخمس مشروعة؛ لتكون ذكرى للذاكرين، قال الله -تعالى-: (‌وَأَقِمِ ‌الصَّلَاةَ ‌لِذِكْرِي) (طه: 14)، وقال عز وجل: (‌وَأَقِمِ ‌الصَّلَاةَ ‌طَرَفَيِ ‌النَّهَارِ ‌وَزُلَفًا ‌مِنَ ‌اللَّيْلِ ‌إِنَّ ‌الْحَسَنَاتِ ‌يُذْهِبْنَ ‌السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود: 114).

فهي تذكِّره بحاجته المستمرة إلى الله إلهًا معبودًا، كما يتذكر فيها حاجته إلى الله ربًّا خالقًا، رازقًا مدبرًا، وكلا النوعين من الفقر داخل في قوله -عز وجل-: (‌يَا أَيُّهَا ‌النَّاسُ ‌أَنْتُمُ ‌الْفُقَرَاءُ ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌وَاللَّهُ ‌هُوَ ‌الْغَنِيُّ ‌الْحَمِيدُ) (فاطر: 15).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


الكلمات الدلالية

تصنيفات المادة